القدس المحتلة ــ نجوان درويش
الجاز الفلسطيني يعلن ولادته من القدس

ميشيل سجراوي يملك عن الجاهليّة صورة مغايرة. و «يثرب» أسطوانته الجديدة مفعمة بالحنين إلى زمن «التعددية والتعايش بين المعتقدات والأديان». موسيقى الجاز، أو كيف نكسر الصورة النمطية للعربي في اسرائيل

لا يبدو مشهد الجاز في فلسطين موازياً للحركة التي تشهدها مناطق موسيقية أخرى. فبينما نجد وفرةً في “العازفين الشرقيين”، نرى أنّ عازفي الجاز النوعيين يعدّون على الأصابع. ولعلّ “يثرب” الأسطوانة الأولى للملحن وعازف الغيتار ميشيل سجراوي التي صدرت عام 2006 في ألمانيا، هي من الإنتاجات القليلة اللافتة لموسيقى الجاز في فلسطين.
ميشيل سجراوي من مواليد الناصرة (1970)، درس الغيتار والتلحين في لندن قبل أن يعود إلى الناصرة مطلع القرن الجديد. عزف في بداياته مع مجموعة من فرق الروك المحلية، قبل أن يصبّ طاقته في موسيقى الجاز التي يبدو اليوم أحد ممثليها العرب الشبان، ضمن ما يُعرف بموجة “الجاز الشرقي”. و“يثرب” في حالة سجراوي ليست استلهاماً أركيولوجيّاً لموسيقى مندثرة من الجزيرة العربية، كما قد يوحي الاسم، بل استعارة لفكرة التعددية والتعايش ــــــ كما يقول سجراوي ــــــ بين معتقدات وأديان مختلفة، مثلما جسّدها مجتمع يثرب الجاهلي في الجزيرة العربية.
الإيحاءات الأساسية في “يثرب” آتية من موسيقى الروك، وبعض الإيقاعات البربرية، إضافة إلى المقامات الموسيقية العربية. وفي ما يخص مسألة تعامل الجاز مع المقامات العربية، فهي “من تأثيرات زياد الرحباني” الذي يراه سجراوي التأثير العربي الأبرز في تجربته. “زياد استخدم في الأساس هارمونيا الجاز لخدمة المقامات الشرقية والميلوديا الشرقية ــــــ وهذا ما تعلّمته منه في البداية. وبعد ذلك، أخذت الاتجاه المعاكس: صرت أستخدم المقامات الشرقية جزءاً لا يتجزأ من الأدوات التي أرتجل بها في موسيقى الجاز. اليوم أنا أستعمل المقامات لخدمة الجاز، بينما استخدم زياد هارمونيا الجاز لخدمة المقامات والميلوديا الشرقية”.
تضم “يثرب” ثماني مقطوعات (“يثرب”، “ع العين”، “لذكرى أم كلثوم”، “بساط الريح”، “أبي”، “واحة روحية”، “كرْم الشيخ”) يسعى فيها سجراوي لتنفيذ فكرته بمزج المقامات الشرقية واستخدامها في الجاز. والفنان يبدو بعيداً عن ثقافة “المخزون الكلامي” والشعار السياسي، لا يقترب بأي درجة من صورة “الفنان المناضل”... ليس فقط بــــــــــــــــسبب طبيعة الجاز الذي لا يتعامل مع الكلمة، بل يبدو موقفاً واعياً: “لست مع فنّ ينتظر من القضية أن تدعمه. أفضّل الــــــــــــــفنان الذي يستعمل الفن الواسع على من يستعمل كلمات واسعة في سياق ضيّق. أنا أرى الموسيقى عالمي، وهي كما أفــــــــــهمها ابنة المساحات الشاسعة”... ويضيف سجراوي قاطعاً: “أنا لا أتاجر بالقضايا”.
يبدو سجراوي واعياً لفخاخ جواز السفر الإسرائيلي الذي يحمله: “يحاول الإسرائيليون استغلالي لتسويق فكرة “التعايش” وإعطاء الحقوق لعرب الـ 48. لكن حين يصل الأمر مثلاً الى مهرجانات الجاز الأساسية مثل مهرجان القدس، و“سينماتيك” تل أبيب، أو حتى “مهرجان حيفا للجاز”، فإنك تعود “عربيّاً”! لأنك لست إسرائيلياً أصلاً. الإسرائيلي هو فقط اليهودي. نحن لم نعش معاً قط، نعيش فقط جنباً إلى جنب والتعايش كذبة. وأنت بصفتك موسيقيّ جاز، تناقض الصورة التي يضعون العربي فيها. العربي محشور في الفولكلور، ولا يستطيع الانخراط في فنون النخبة. فولكلور شعبي وكفى. وأنت، موسيقي الجاز، تكسر الصورة النمطية للعربي”.
بعد عروض في ملتقيات جاز عالمية، قدّم “ثلاثي ميشيل سجرواي” (أمين أطرش ــــــ درامز، لؤي أبو سني ــــــ أورغ وباس، ميشيل سجراوي ــــــ غيتار) في القدس، العرض الختامي لسلسلة “إيقاعات الخريف” التي نظّمها “مركز الفن الشعبي” في رام الله. وهي سلسلة حفلات جاءت على شكل تظاهرات فنية جماهيرية متضامنة مع الشعب اللبناني والمقاومة خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان.
استقطبت “إيقاعات الخريف” فرقاً وفنانين من ذوي الطابع الجماهيري (فلامنكو، رقص شعبي فلسطيني) إضافة إلى حفلات عبر الفيديو استضافت فنانين من المحيط العربي، منهم سميح شقير وروجيه عساف. وهي فعاليات بمجملها كانت موجّهة الى جمهور كبير، وقد توافر لبعضها تغطية مباشرة من فضائية عربية. لكنّ واقع إغلاق القدس أمام الجمهور الفلسطيني منذ سنوات، كان كفيلاً بجعل حفلة الختام مع ثلاثي ميشيل سجرواي نخبوية على خشبة “المسرح الوطني الفلسطيني”... لا لأنّ هواة الجاز القلائل هم الذين قصدوه، بل لأنّ الحضور كان من “نخبة” مختلفة: إنّهم تلك القلة القليلة التي نجحت في الوصول الى المدينة المحتلة، المعزولة والممنوعة عن محيطها الفلسطيني.