رلى راشد
الجنرال فرانسيسكو فرانكو كما لم نعهد أو نتخيّل حتى: امرؤ امتثالي على شفا العاديّة حيناً وعلى شفا البؤس أحياناً. إنسان يعجّ بالمُفارقات والمُغالاة ليُمسي شخصيّةً روائيّة، وكأنه بطريرك فرّ للتو من “خريف” ماركيز. الجنرال فرانكو، أو “إيل كاودييو”، كما راق مواطنيه مناداته، سياسيّ استأثر بالسلطة كما نعلم، لكنه أراد من خلالها التماهي مع مُثُله العليا مع كارلوس الخامس أو فيليب الثاني، مُشيدي الإمبراطورية الإيبيرية. وضع نصب عينيه “فُتوحات” أبطاله الحربيين فحاول على امتداد حياته إعادة صوغ قصّته الخاصة ليُمسي “ديكتاتور روايات” كما خلُصت سلسلة مُحاضرات نظّمها أخيراً معهد ثرفنتس في لندن.
انطلاقاً من الأعمال الأدبيّة، تناوبت مجموعة من المؤرّخين والكتّاب والنقّاد على محاولة تشذيب صورة فرانكو النمطيّة وعلى نزع الأقنعة المُختلفة التي وضعها فرانكو، “روائيّ حياته” كما يصفه المؤرّخ البريطاني بول بريستون. والمثال الأوضح على هذا الجنوح هي الحكاية التي ألّفها بنفسه عام 1940 وحملت عنوان “عُرْق، حكايات سيناريو فيلم”. في الرواية، التي تدور في فلك السيرة الذاتية، ساهم ابتكار شخصية بحّار ملحميّ شديد الرومانسية، في تجسيد استيهامات فرانكو البطوليّة وإخراج مكبوتاته، فشكّل هذا العمل بالتالي تأكيداً “كتابياً” على مساعيه الحثيثة لاستيلاد ماضٍ مثالي. فنّد بريستون كاتب سيرة فرانكو، في محاضرته، أقنعة الديكتاتور الإسباني المبتكرة: قناع البطل الحربيّ خلال الحقبة الأفريقية، فقناع “السيد القرن العشرين” (“السيد” كورناي طبعاً) خلال الحرب الأهلية، وصولاً إلى قناع “قبطان نومانسيا” (في إشارة إلى “نومانسيا”، عمل ميغيل دي ثرفنانتس المسرحي) وإلى قناع جدّ إسبانيا بعد التوقيع على المعاهدة مع الولايات المتحدة الأميركية عام 1953.
من جهته، رسم الروائي الإسباني خوان لويس سيبريان والمدير السابق لصحيفة “ايل باييس” صورة فرانكو المعتقل في دوره جندياً أفريقيّاً لتختلط عليه الأمور فيعامل مواطنيه كأنهم فيلق من العسكر! انطلق سيبريان من “فرانكو موريبونديا” أو “موت فرانكو”، الجزء الثاني من ثلاثيّته عن المرحلة الانتقالية في إسبانيا، ليتوقّف عند شخصية ديكتاتور بارد لم ينكر يوماً القمع الذي مارسه لأنه اقتنع بأن ما قام به كان بتكليف إلهي. وعلى ما يبدو، بحسب سيبريان، مثّل فرانكو المواطن الإسباني من الطبقة الوسطى، لهذا السبب استمرّ نهجه أربعين عاماً، فهو قدّم، في شكل من الأشكال، إسبانيا كما رآها ولا يزال يراها أكثر من نصف سكانها، بلاد أقانيم الكاثوليكية والنظام والانضباط واللباس اللائق!
أدرك فرانكو قبل موته أنه سيصعب على مواطنيه أن يتخطّوا بسرعة آثار حكمه، وكأنه يستشرف صراعاً سيحتدم بعد رحيله بشأن نبش هذا الماضي الذي لن يستثني حتى تماثيله في الساحات المدريلينية. قبل أن يُطبق عينيه، تحدّث فرانكو عن مستقبل بلاده كما يراه. قال إنه يغادر مطمئناً لأن كل شيء “سيبقى في إسبانيا ممسوكاً وممسوكاً على نحو جيد” في جملة ستستوطن كتب التاريخ، في نبرتها الشكسبيرية.
فرانكو شخصيّة روائية أو مسرحيّة ربما؟ قد يكون الطغاة مثيرين للاهتمام روائياً، لكنهم، بلا ريبة، مزعجون للديموقراطية!