مراكش ـــ ياسين عدنان
  • معرض فوتوغرافي يعيد الاعتبار إلى فنّ «البورتريه»
    يسدل الستار اليوم في مراكش على المعرض الذي نظمته «الجمعية الوطنية للفن الفوتوغرافي»، وجمع أعمالاً وتجارب من المغرب ولبنان وفرنسا وبريطانيا، في محاولة لتقديم «البورتريه»، كأحد الروافد الرئيسيّة للفنّ المعاصر

    لم يكن “المعرض الوطني الحادي عشر للصورة” الذي نظّمته الجمعية المغربية للفن الفوتوغرافي في قاعة المعارض التابعة للمركز الفرنسي في مراكش مجرد فرصة للتواصل وتبادل الخبرات والمقاربات الفنّية بين المصوّرين المغاربة. هذا المعرض الذي اختُتم اليوم وحمل عنوان “بورتريهات”، كان مناسبة لتسليط الضوء على هذا الفنّ بوصفه موضوعاً أثيراً لدى الفوتوغرافيين، ومناسبةً للاحتفاء بالفرد، بما هو قيمة إنسانيّة ومجموعة مراجع وإحالات ثقافيّة واجتماعيّة. أول ما يتبادر إلى الذهن عندما نتناول فنّ البورتريه، وجه الموضوع المصوَّر بتقاسيمه ونتوءاته وخطوطه. وجه الإنسان هو عتبة روحه، والباب الذي نعبره إلى جوهر ذاته. ويبقى رهان الفوتوغرافي الحاذق هو اختراق تلك الواجهة، ونقل هذا الجوهر من خلال كليشيه يجمّد الزمن عند لحظة محدّدة... في وضعيّة محدّدة، في إطار محدّد، وعبر علاقة خاصة مع الضوء...
    لماذا الآن؟
    لماذا البورتريه الآن؟ أما زال لهذا الصنف الفوتوغرافي من ضرورة فنية وثقافية؟ أم أنّه صار تراثاً، شكلاً قديماً في زمن اجتياح الصورة بأشكالها التقنية الأكثر تطوراً، لأبسط تفاصيل حياتنا اليوميّة؟ أما زالت عدسة الفوتوغرافي التي تلتقط حالة ما، أو تعبيراً، مصدرَ إدهاش في ظل الطغيان البصري المذهل الذي نعيشه اليوم؟ يستحيل طبعاً اختزال هذا الصنف الإبداعي، ذي المفاتيح والأدوات الخاصة، إلى مجرد صور كتلك التي تستعمر وجودنا، تأتينا من العالم أجمع، وعبر شتّى الوسائل. كان البورتريه قديماً مرآةً من نوع خاص، لا تعكس ملامح صاحبها وتقاسيم وجهه فحسب، بل روحه وانفعالاته الداخلية العميقة. البورتريه ليس صورة أمينة لوجه معيّن، بل هو كوة غامضة نتلصص من خلالها على الروح الإنسانية، في احتدامها البالغ التعقيد. أضف إلى ذلك أنّ البورتريه مرآة لا تنقل لنا جميعاً الصورة نفسها. لأن الفنان، ببساطة، قد لا يكون بالضرورة معنيّاً بنقل ملامح هذا الشخص أو ذاك، بأمانة ودقة وحياد، بقدر ما ينخرط في موضوعه انخراطاً كلياً ويتماهى معه، بل يفنى فيه. حتى أنّك تجده أحياناً يتفانى في خيانته. في فنّ البورتريه، الموضوع ليس أكثر من ذريعة في الواقع. أما الهدف الحقيقي للفنان، فهو أن ينقل لنا عبر البورتريه نظرته الخاصة، من خلال زاوية الالتقاط الحميمة جداً، والخاصة به. هذه الذاتيّة بسببها يمكن عشرات المصورين أن يعطوا أعمالاً فنية متباينة الأبعاد والدلالات، حتى وهم يشتغلون جميعاً على الموضوع نفسه، وفي اللحظة نفسها. النظرة وزاوية الالتقاط ومزاج الفنان وحالته النفسية هي ما يصنع الفرق. أما الموضوع فهو مجرد موضوع. والمعاني مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ يوماً.
    شارك في المعرض المراكشي حوالى 25 فناناً من المغرب ولبنان وفرنسا وبريطانيا، من بينهم حياة قرانوح (لبنان)، ألان كِيُوهان (بريطاني مقيم في المغرب)، إرفي بَايْز (فرنسي مقيم في المغرب)، جان فليب بارت (فرنسا)، رشيد بنداود وجعفر عاقيل (المغرب). التقط هؤلاء وجوهاً غريبة في الأسواق الشعبية والمدن العتيقة والحارات، صوراً ترصد علاقة الإنسان بالمكان وبالأشياء المحيطة به، وعلاقته بالزمن والوقت. أمام تلك البورتريهات، يجد كل منّا نفسه، وقد نفَذ إلى ما وراء الوجه الذي أمامه، تخرج وجوه أخرى في الذاكرة من قمقمها لتسْند الوجه الغريب الذي في اللوحة الفوتوغرافية وتضفي عليه معنى ذاتياً خاصاً. فإذا وجدْتَ الوجه حزيناً، فتأكد أنك عثرت فيه على حزنك الخاص. وإذا ألفيتَه قاسياً بعض الشيء، فهي بعض القسوة الكامنة فيك تلبَّسَتْه وواجهتك من خلال نظراته. وقد يبكي طويلاً أمام نظرة غامضة تطلّ عليه من بورتريه فوتوغرافي بالأبيض والأسود كما في الموضوعات التي اشتغل عليها المغربي رشيد بنداود. فنحن مسكونون بالعديد من الصور. ولكل ذاكرته الصُّوَرِيَّة الخاصة ونظرته الذاتية أيضاً.
    قد يكون الوجه المطلّ من الصورة غريباً لا تعرفه. لكنّ نظرته ليست كذلك. النظرات التي تطل من البورتريهات ليست غريبة ولا محايدة. إنها تخترق مُشاهِدَها بعمق. بل حتى الفنان الفوتوغرافي ذاته ما كان ليلتقط صورة لهذا الوجه أو ذاك إلا بعد أن يناديه الوجه ويمارس عليه بعض السحر. لا يمكن الفوتوغرافي أن يمارس فعل التقاط الصورة لهذا الوجه أو ذاك ما لم يفتتن به ولو لثوان. وهو عندما يلتقط الصورة، هذه الصورة بالضبط في هذه اللحظة ومن تلك الزاوية بالضبط، يكون قد خلق شيئاً جديداً. يكون قد نفخ في الوجه، في روحه وأعطى المشاهد لوحة فنية مبتكرة. فيها شيء من روح موضوعها، وفيها بعضٌ من روح الفنان، وموجهة إلى روح المشاهد قبل حواسه التي تَعقِلُ الصور.
    إن الفنان الفوتوغرافي لا ينتظر منّا أن نفهم بورتريهاته، أو نجتهد لتصنيفها بمعايير العمر والعِرْق والوطن والوضع الاجتماعي، بقدر ما يطلب منّا أن نتواطأ معها ومعه لتوليد المزيد من الدلالات والأحاسيس. أنجح البورتريهات هي تلك التي تولّد في نفوس مشاهديها أكبر عدد من المشاعر والأحاسيس الملتبسة بل والمتناقضة أحياناً.
    إلا أنّ كثيرين ما زالوا يتعاملون مع الصورة الفوتوغرافية كما لو كانت فنّاً من الدرجة الثانية. لذا، أتى معرض “الجمعية الوطنية للفن الفوتوغرافي” ليعيد الاعتبار إلى هذا الفن المهمّش. حتى إن رئيس الجمعية المصوّر جعفر عاقيل لم يتردد في المطالبة بإدخال الصورة الفوتوغرافية إلى المتحف الوطني للفنّ المعاصر، إذ إنّ معرض “بورتريهات”، بما ضمّ من لوحات فوتوغرافية متميزة، لا يقل أهميّة ــــــ في تنوعه الجمالي وعمقه الفكري ــــــ عن باقي الأشكال والتجارب التي تدخل اليوم في سياق الفنّ المعاصر... لا بل بوسعها أن تشكّل إضافة حقيقيّة إلى الحركة التشكيلية المغربية.