كامل جابر
لم يكن القرار هيّناً بالنسبة إلى حسين نجيب ناصر، أن يترك التعليم، متقدماً إلى مجلس الخدمة المدنية، ليكون ساعياً للبريد. كان ذلك عام 1964، بعد ثلاث سنوات في التدريس، أتى المرسوم الذي ينص على تعيينه هذا الرجل وهو من يحمر، ساع للبريد في وزارة البريد والبرق والهاتف، في منطقة عبيه (جبل لبنان)؛ «القرار المنتظر، مع أنه الأكثر جهداً، من التدريس، فالدوام كان يبدأ في الثامنة صباحاً، ويتوقف ساعتين عند منتصف النهار، ليستمر حتى السادسة مساءً، صيفاً أو شتاءً».
ولأن لا وقت متاح في غير الليل، كان على ساعي البريد نقل السكن من يحمر، إلى عبيه، ولا يعود إلى قريته، إلا في العطل الأسبوعية؛ ويسعى براتب اجمالي لم يتعد 206 ليرات تتوزع على النحو الآتي: 161 ليرة أساس الراتب، 15 ليرة عن الزوجة، و30 ليرة عن البنتين؛ أما خط توزيع الرسائل والبرقيات، فكان يشمل: عبيه، القساقين، عين قصور، قبر شمون، عرمون الغرب، عين درافيل، بعورته، دقّون ورمحالا.
وبين الكلام، عن أهمية المهنة، في تلك المرحلة من تاريخ لبنان، وبين دورها في هذا «الزمن المتخم، بالهواتف النقالة، وتلك التي دخلت إلى كل بيت، ليتحادث من في أقاصي الدنيا، مع أهله هنا في كل لحظة، وشاردة أو واردة، بدلاً من أشهر، أو أكثر لتصل الرسالة، أما البرقيات، فعادة، كانت تحمل الأخبار السيئة أو الحزينة، اما أخبار الفرح، فيمكن أن تنتظر؛ أجد أن للمهنة كانت نكهة لا تضاهيها رغبة أو انتظار؛ والرسائل أحملها للمرسلين من: ليبيريا والسنغال وأميركا، وقليل من دول الخليج».
ويتذكر أبو ناصر عادات تلك الأيام، عابثاً بشنبيه الكثّين الطويلين، اللذين ورثهما عن والده وخاله: «كنت أطرق الباب، تسأل ربة الدار مِن خلف الباب، مَن الطارق؟ أرد: ساعي البريد، لا يخرج أحد، تفتح الزوجة دفة الباب نصفها، تمد يدها وتتناول الرسالة وتقفل عائدة نحو الداخل. أما في عيد الأضحى، فكنتُ مثل غيري، أتلقى مظروفاً لا رسالة فيه، إنما عيدية».
بقي ساعي البريد على اتصال مع زملاء المهنة، حتى بعدما عاد إلى مدينة النبطية القريبة من يحمرعام 1967، ليوزع رسائله في 18 قرية؛ ولأن نطاق العمل اتسع على هذا القدر، اشترى دراجة «ولا أهاب سيول المياه، حتى في نهر براغيت، الذي كان يثور في فصل الشتاء، ويختفي مع إطلالة الربيع».
رافقت الدراجة عينها، كل رواح ومجيء حسين ناصر، 38 عاماً متتالية، ولم يتخلّ عنها، وان اضطر للتخلي عن قيادتها عام 2005. إنما لم يبعها، بل ركنها في زاوية من متحفه «فهي صديقة عمري ورفيقة دربي، مثلها مثل شنطة الرسائل». وعهده في ذلك، عهد المهنة التي «كان لها عزّ لا يوصف، وصدى في نفوس الناس، يعبرون عنه من تلك الهدايا التي ما زلت أحتفظ بكثير منها: مسابح وجزادين وقداحات؛ ومن تجلياتها، مغلف فيه عشرة آلاف ليرة لبنانية هدية، بعدما نقلت رسالة من محافظة النبطية، لأحدهم، فيها نجاحه عضواً في البلدية».