بيار أبي صعب

أنا خائف يا جوزف. زياد الرحباني كتب عن الخوف الجماعي. أن يضعف موقعنا السياسي عند هذا المنعطف الصعب.
دعني أضيف كلاماً عن خوفي الشخصي... بكل أنانيّة


ببطء أهتدي إلى كلماتي. أستعيد لغتي كمن يعيد تعلّم الحكي بعد حادث فظيع. تأتي العبارات في البداية مفكّكة. أضغاث جمل، نثار أحلام، صوراً تتدافع في كل الاتجاهات، تكرّ أمامي فلا أعرف أيها أختار. خافَ، أخافُ. الخوف. خائف أنا خائف. سور هائل ينهار، تجد نفسك عارياً في غابة. هكذا فجأة. وحوش لا أسماء لها، يصعب وصف أشكالها. تتلفت شمالاً ويميناً، تنظر إلى الخلف بحركة مباغتة. قبل قليل كان هنا، وين راح؟ كنتُ واثقاً ــ لمرّة وسط تاريخ من الخوف ــ بأنني في أمان. أينه؟ أينك؟ “زوزو” كما تقول منال. لماذا لا تردّ. إشارة تكفي، “أَمْأمة” (على وزن همهمة) من أَمْأماتك الأسطوريّة. لا شيء ينفع. أنت وحدك في الغابة يا بيار، يا صاحبي. “عسكري دبّر راسك”.
في الحقيقة أنتَ حضّرتنا. لم نكن نفهم، في الآونة الأخيرة، سبب صمتك، بعدك، انسحابك من أمور كثيرة. كنا نطلب الكثير، نريد منك أن تتدخّل، أن تحسم... وأنت تقطّر حضورك بالقطّارة. كنا نتفشفش في ما بيننا، يشكوك بعضنا إلى البعض الآخر. وفيق لخالد وهلا لإبراهيم، وأنا لخالد وهلا... حين يسألك أحدنا تجيب على شكل مطلع موّال: “تعبااااااااااان، تعبان”. وأن قدرتك على التركيز خفّت بشكل مقلق. طبيعي يا أبو الزوز، ٧ أيام عمل في الأسبوع على ٩ أشهر. وبلد فظيع، مرتع العبثية والنذالة والأحكام المسبقة، وأنت تقرأ أكداس الصفحات التي تناولك إيّاها صباح طازجة بجرعات كبيرة كل صباح، تريد أن توصل صوتك الراديكالي، وخطابك المركّب، في زمن اختزالي بليد “يحبّ الحياة”... يعني كيف تحتمل، حتى لو كنت سوبرمان! وبعدين، لقد أعطيتنا كثيراً... سنوات وأنت تربّي بربّنا، كل واحد من ميل. ثم أتيت بنا ووضعتنا كلاً في مكان يشبهه. تبعناك كما تبع الصيّادون عيسى الناصري ليصبحوا “صيادي بشر”. بيكفّي. فليتدبّر كل واحد أمره، كما يعرف. فليتصرّف. الآن أفهم. الآن وقد عملت فينا الضرب. لقد كنت تمرّننا على غيابك المادي... تمهّد لذهابك الطويل. بعد اجتماع ماراتوني لمجلس التحرير في عزّ رمضان، يوم مضن من النقاش في فندق بيروتي، سألتك رأيك فــي هـــذه المـــحاولة الأولى من نــوعهـــا.
“كنتُ أسمعكم، أراقبكم وأقول في سرّي: شو ما صار، هيدول بيطلّعو جريدة”. لقد صار الـ“شو ما صار” يا أبو الزوز. ورح نطلّع الجريدة، ونواصل رهانك المجنون: جريدة طليعية، مستقلّة، وطنيّة ومنفتحة، متعددة الحساسيات والأصوات، حديثة، علمانيّة، مطلبيّة، نسويّة، معارضة في أجمل معاني الكلمة وأنبلها، أندرغراوند على قد ما يتسع الوعي العام. عربيّة الهمّ والموضوع والمشاغل، يتابعها عبر الإنترنت الناس الحلوين (ولم نكن نتصوّر في البداية ما أكثرهم) في فلسطين والمغرب والجزائر ومصر... والسعوديّة أيضاً. جريدة عصريّة ومع مقاومي حزب الله في مشروع وطني لا علاقة له لا بالأصوليّة ولا بالطائفيّة. شكراً على هذا الميراث يا جوزف. لم يكن ممكناً أن أكتب بهذه الحريّة عن حقوق المثليّين جنسيّاً في لبنان والعالم العربي، إلا في الظل الوارف لبندقيّة المقاومة. أعرف أصحاباً أعزاء يلومونني على هذه القناعة. يصطفلوا! لم يكن ممكناً أن أكتب ضد “التحريفيّة” واللاساميّة والإساءة إلى اليهود وتدنيس المحرقة النازيّة إلا في ظل البندقيّة المقاومة. لم يكن ممكناً أن أكتب ضدّ منع رواية سعودية تتناول الجنس والدين، إلا.... إلخ. مازن كرباج ابن سمير قصير البار لم يجد مكانه الطبيعي وحريّته التامة إلا في “الأخبار”. هذا الأخوَتْ أرسل في الايميل من الولايات المتحدة أنه رآك تضرب كأساً بكأس مع سمير. عندكما بعض المسائل التي ينبغي تصفيتها. خذا وقتكما (ونحنا يلّي عم يوجعنا راسنا). ربّما انضمّ إلى الخناقة مارون بغدادي الذي طردته يوماً من الخليّة لأنه “فرنكوفوني بورجوازي”...
سنواصل، وننجح وحياتك. ألا ترانا منذ يوم الأحد، كأننا تدرّبنا سنوات على ذلك. نستقبل أصحابك المذهولين، نبكي معهم قليلاً. نتفجّع ونتذكر ونستعيد ونحتجّ على القدر اللئيم، ثم نعود إلى شاشة الكمبيوتر. (ما زلنا مع أمل وجورج على عادتنا نتأخر في “إقفال الصفحات”، لكن إميل لا يقول شيئاً). نضحك أحياناً، ننكّت حسب طريقتك في مواجهة المصائب الكبرى. “سلاح المناضل السخرية والصبر” كما كنت تقول، مستشهداً بلينين. لكن من قال لك إنو على بالي كمّل من دونك. أنا، الأشياء البسيطة التي حققتها هنا بشكل معقول، مع العصابة طبعاً، كانت كي أعجبك. أعترف بأنني استغللت الصبايا والشباب قليلاً، فقط كي أريك أنني على مستوى رهانك. في الجريدة كما في الحياة، كان هاجسي أن أغويك. إنها قصّة غواية شخصيّة يا أبو الزوز، مع احترامي للقضايا الوطنيّة. ولهذا أنا خائف. خائف ألا أجد من الآن فصاعداً دوافع كافية للعمل، وللعيش، من بعدك. اعذرني على هذه البلادة. أنت عقلاني وواقعي، وأنا انفعالي ومثالي. أسمعك تدلّعني بعبارتك الحنونة “الله يلعنك!”. أراك ترمقني ببسمتك الماكرة المنتشرة الآن على جدران الجريدة.
كل هذه الجموع أخذتك منّي. وهذا حقّها، وهذا شرف عظيم لنا، نحن ورثتك كل على طريقته. لكنني لا أحبّك مع الجموع. جوزيفي الحقيقي في الجلسات الحميمة، الضيّقة، مع شخص ثالث فقط أحياناً (فليمت خالد غيظاً أنا وريث أسرارك الحميمة!). تتكلّم في السياسة غالباً... و”تركّب مألة”، وتلعب بمن حولك كما تلعب البليارد. ويختلط الحميم بالعام، الوطني بالعاطفي، الفكري باليومي. يجمعنا الـ “غلنمورنجي” أيضاً، اِعترف أنني أنا من جعلك تكتشف هذا الـ single Malt، أيّام لندن. وإذا اتسعت دائرة الندمان، رحت تضع لنا أم كلثوم، تغني معها بل تومئ معها أنك تغني... وأنت تجمع أصابع يدك اليمنى ترقّصها في الهواء، وتأخذها صوب قلبك. ثم في نصف الليل وقد استخفّنا الطرب، تضع لنا خطابات عبد الناصر! هذه عَملة من عَملات أبو الزوز.
ما حدا يحب الحياة مثلك يا أبو الزوز، بالإذن من ساتشي، و”سبيريت أوف أميركا” والآخرين. بس الحياة، الحياة، يعني. فيها طلاب وشباب، رجال ونساء، عمّال وموظفون وجامعيون مندمجون في مجتمع مدني حقيقي (يحترم حق الفرد في الوجود، خارج الطائفة والمنطقة والعشيرة والملّة)، يتمتّعون بنظام تربوي (وطني، انساني، تعددي)، ونظام سياسي (علماني، ديموقراطي، قائم على دولة القانون)، ونظام اقتصادي (عادل ومنتج ــ لا طفيلي).
خائف يا جوزف. زياد الرحباني كتب عن الخوف الجماعي. أن يضعف موقعنا السياسي عند هذا المنعطف الصعب. دعني أضيف كلاماً عن خوفي الشخصي... بكل أنانيّة. عمري لم أشعر بأنني وحيد كما اليوم. أنسى أحياناً وأتلهّى، وعندما تواجهني محطات الحياة اليوميّة، أو أنظر الى الأمام قليلاً أتذكّر. دائماً كنت أخاف أن تفركها. أن أضيّعك في الزحام. قلت لي، وعدتني، كما وعدت إيلي ووفيق، هذه المرّة لن أتحرّك. إلى أين أذهب؟ الجريدة مشروعي الأخير. صدقناك، لكننا لم نحسب حساب الموت. دائماً كان عندك طرق مبتكرة حين تضوج وتضجر وتتعب وتنتابك رغبة في الانسحاب. إسأل زهير، فهو يعرفك جيداً. تتعقّد المسائل في بيروت، تفركها إلى باريس... تزداد المشاكل والضغوط في باريس، تيمم شطر لندن. ثم “تعود” إلى بيروت التي تشعر فيها بأنك إمبراطور مطلق. يكتب سمير قصير “عادت بيروت” في الأورينت إكسبرس. مبروكة عليك بيروت. إبقَ فيها إذاً. هنيئاً لك هذه المدينة التي ورّطْتَني بها. كنتُ غريباً، وسعيداً بحالي، لم أكن قادراً على التعرّف إلى وجوه النواب والوزراء في مقهى الـ “إتوال” أوّل وصولي، أيّام عملنا في “الحياة”. غريب عن الأوطان كنتُ. ورطتَني وذهبت. هل هذه وصيتك؟ هل هذه تركتك؟ لا أريد أن أبقى من دونك. أريد أن أبقى وحدي. الحداد الحقيقي تعيشه وحدك. حين ماتت أمك طلبتَ منّا أن تبقى وحدك. وحين جاءك خبر وليد إلى باريس. أذكر كيف انعزلت في جوسيو، شارع غي دو لا بروس. قلت لي: لا تخف عليّ، أريد أن أبقى معه قليلاً أن أتذكّر حياتنا. نحــــن وحدنا الآن، حياتك معنا مستــــمرّة من دونك. أتـــــذكّر. أشياء كنت ترويها لي عن الحداد. (هل كنت تحضّرني أيضاً للحداد عليك؟). كيـــف انعــــزل حسن نصر الله وبكى ابنه الشهيد هادي. كيف ذهب صحب خالد صاغيّة الأكبر، بعد دفنه، إلى بيته، أقفلوا الأبواب وراحوا يرقصون مع ثيابه وأغراضه. كيف تعرف؟ نسيت أن أسألك. هل كنـــت معهم. كم كان عمرك؟ أم أنّك تخيّـــــلت ذلـــــك؟ أوّل من أمس ذهبت وحــــدي إلــــى بيــــتك، شـــارع فيكتور هوغو. لم أرقص مع ثيابك. أردت أن أختلي بك مرّة أخيرة... أن أرى طاولة البليارد، اللوحات، المكتــــب. أردت أن أختطف منك تمثال المرأة الراكعة. سافر معك من موسكو إلى باريس، فلندن، فبيروت. كنت أنافسك على حب هذه المرأة الروسيّة الغامضة، الماجنة كأجمــــل ما تكــون النساء. المجال الوحيد الذي يمكنني منافستك فيه حتى لو خسرت. لكنني لم أجدها. لقد هربت حبيبتنا يا جوزف. وصلها الخــــبر قبلــــنا، فاســـــتعادت حريّتــــها. وحـــده في هذا الخلاء، الشيخ عبــــد اللطــــيف البــــنّا يغنّي: “إبه بتسوا الجنيهات، جـــنب البرلنتي؟”.
يا لها من لعبة يا جوزف. مرّة أخبرتني في باريس، أنكم أيّام الحرب لعبتم هذه اللعبة. كنتَ في “السفير” على ما أعتقد. طلبتَ من أصدقاء، بينهم حسن، أن يكتبوا مقالات في رثائك. يا لك من نرسيس. الموت لعبة أدبيّة في النهاية. أين المقالات التي كُتبتْ يا ترى؟ إذا سألتك أمك سيسيليا وأخوك وليد عن بيت العائلة القرميدي القديم، أول نزلة مونو على اليمين. فقل لهما الحقيقة. أذكُر حزنك على الهاتف حين قلتُ لك إنّه انهدّ. كنت تحلم أن تنتقم لماضيك وتشتريه: لقد طردتم منه أوّل الحرب، ثم أرغمتم على بيعه بـ75 ألف ليرة. الشرفة التي كانت أمّك تدلق منها المياه الساخنة على الكتائب، اختفت إلى الأبد، وذهب الجار الذي خبّأ لك لوحة القدس عشرين عاماً. لفّها بالجرائد وانتظر أن تعود.
وماذا بعد؟ الآن وقد استعدتُ قدرتي على الكلام. زينة زعلانة لأنها لم تحضر عيد ميلادك. دارينا اتصلت تسأل عن أميّة من باريس. الأحد الماضي فتح هاشم معاوية مكتبته (ابن سينا) في باريس لأصدقائك. حازم وصل وحده من لندن. قال عمر إنّك تصل السبت. لا تنسَ العشاء عند رلى، موفق أحضر لك الكتاب الذي طلبته من أميركا. الأحد؟ موعدك مع الجماهير. إعترفْ بأنّك تحبّ الجماهير. هذه “خَصلة” يساريّة قديمة. هلا رتّبت كل شيء. سنختار رخامة جميلة تعجبك. أنت تثق بذوق هلا، أليس كذلك؟ كنتَ دائماً تستعيد معها المشهد الشهير من فيلم جون هيوستون “كاي لارغو” (ميناء الرعب). حين تقول لورين باكال لهمفري بوغارت:
“إذا احتجت إليّ... يكفي أن تصفر. هل تحسن الصفير ستيف؟ تقرّب شفتيك هكذا وتنفخ”. كنتَ دائماً تنتظر من الآخرين أن يصفروا يا أبو الزوز. تنكّر ملاك الموت في ملابس لورين وصفر لك. وأنت تشبه همفري بوغارت في صورة تييري جيكال التي نشرناها قبل يومين.
خائف أنا. لو أنك هنا، لكان من الممكن أن نخسر سويّة حين يكتمل بناء الشرق الأوسط الجديد. حتى الخسارة معك حلوة ولذيذة. لكنني لا أريد أن أخسر وحدي. أنا خائف أن أفقد صلابة إيماني يا جوزف، وأصير “أحبّ الحياة”! هل صدّقت أنني بدأت أتمرّن على غيابك؟