سعد هادي
كان يعتبر أن مجتمعه حصيلة للصراع بين البداوة والحضارة. 12 عاماً بعد رحيله، ما زال راهناً ويثير السجال. كتاب جديد يسلّط الضوء على هذا المفكّر العلماني الذي أزال الأصوليون قبره بعد الاحتلال الأميركي للعراق

حاول علي الوردي خلال حياته (1913 ــــ 1995) أن يقدّم تحليلاً موضوعياً للمجتمع العراقي، اعتماداً على ثلاث فرضيات: الصراع بين البداوة والحضارة، ازدواجية الشخصية والتناشز الاجتماعي.
اعتُبر الوردي الذي درس في بيروت، ولاحقاً في تكساس، من أكثر المؤلفين العراقيين شعبيةً. هذا العالم الاجتماعي والمؤرخ الذي عرف باعتداله وموضوعيته يُعدّ من روّاد العلمانية في العراق. وقد ظل باستمرار محط جدل بين مؤيديه ومعارضيه. منهجه الذي استند إلى الحيادية في تفسير وقائع التاريخ ومظاهر الحياة المعاصرة كان يثير لدى المتنوّرين أسئلةً بشأن أصول الأعراف والتقاليد، وتأثيرها في توجهات الفرد وخياراته، من دون أن يقدّم أجوبة شافية لها. أما رجال الدين والسلفيون فكانوا ينظرون بريبة إلى ما يقوله ويكتبه. وقد حاولوا دائماً تسفيه آرائه. حتى أنّ بعضهم وصفه بالمارق الذي يتحدّى المقدّسات ويغامر بمواجهة المحرم.
كتاب «من وحي الثمانين» الذي أصدرته «مؤسسة البلاغ» (دمشق ـــ 2007) يشكّل إضافةً إلى تراث الوردي الذي توقف عن النشر في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، بعد ثمانية أجزاء من كتابه الكبير «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» وذلك بعدما تعرّض إلى مضايقات من نوع آخر. إذ جاءت هذه المرة من دوائر السلطة التي كان منهج الوردي وتحليلاته على النقيض من توجّهاتها الشمولية.
وعدا مقالات متفرقة هنا وهناك، لم ينشر صاحب «وعاظ السلاطين» (1954) و«مهزلة العقل البشري» (1955) أي كتاب آخر. وقد اكتفى بالإعلان عن كتابته لمذكرات صريحة لم يُعثر عليها بعد وفاته، إلى جانب كتاب كبير اختفى أيضاً بعنوان «طبيعة البشر».
يقدّم كتاب «من وحي الثمانين» الذي حقّقه وعلّق عليه تلميذ الوردي ومريده الصحافي العراقي سلام الشماع، أفكار الوردي الأساسية، كما وردت في سلسلة من الحوارات كتب أسئلتها وأجاب عنها، ونُشرت مطلع عام 1990 في إحدى الصحف العراقية. يشير مثلاً في فصل بعنوان «بقايا الفترة المظلمة» إلى أنّ المشكلة الرئيسية التي عاناها مع الكثير من أمثاله هي أنّ الخطابيين البلاغيين يتدخّلون في كل موضوع حتى في المواضيع التي لا يعرفون عنها شيئاً. فهم يملكون سلاحاً صارماً، على حد تعبيره يصولون ويجولون به هو سلاح الألفاظ الرنانة، وهم يطلقون ألسنتهم في نقد المفاهيم الحديثة ويأتون بالأدلة العقلية والنقدية التي تؤيد وجهات نظرهم. ويعقّب الشماع أنّ مناظرة جرت بين الوردي وعدد من رجال الدين انتقدوه بعد صدور كتابه «وعاظ السلاطين». وقد وصل الأمر إلى حد تكفيره، وقد حصلت المناظرة وتحدث فيها الوردي طويلاً ثم خرج إلى بيته تحت الحراسة خوفاً من تعرّضه إلى اعتداء.
ويرى الوردي في الفصل ذاته أنّ الفترة المظلمة التي استغرقت حوالى ستة قرون كانت أفظع فترة مرَّ بها العراق في تاريخه الطويل، من حيث الانحطاط الحضاري، مضيفاً أنّ القيم والعادات الاجتماعية التي شاعت فيها لم تختف فجأة، بل ظلت مؤثرة لزمن غير قصير.
في فصل آخر بعنوان «ازدواج الشخصية»، يرى علي الوردي أنّ موضوع الازدواج قد أسيء فهمه وأنه لا ينحصر في العراقيين دون سواهم، بل هو موجود في جميع المجتمعات، لكنه يتفاوت تبعاً لاختلاف الظروف... وهو ينشأ في المجتمع عند وجود نظامين متناقضين من القيم. فالفرد يتلقى نوعين من الإيحاء الاجتماعي، أحدهما يدفعه إلى تقدير أخلاق معينة، والآخر يدفعه إلى تقدير أخلاق مناقضة لها. لذا، يتخذ في حياته سلوكين مختلفين من حيث لا يدري.
أما عن صراع البداوة والحضارة، فيعتبر الوردي أن المجتمع العراقي حصيلة له. هو يرى أن أي مجتمع في النهاية هو حصيلة الظروف التي مر بها. العراق الذي شهد أقدم الحضارات في تاريخ البشر، يقع على حافة صحراء تعج بالقبائل البدوية. وقد اعتادت هذه القبائل أن تتسلّل إلى العراق كلما انحطّت الحضارة فيه، لكي تفرض قيمها البدوية عليه. ورداً على من اتهموه بالتركيز على الجوانب السلبية، يرد الوردي أنّه لا ينفرد بذلك بل هو شأن جميع الباحثين الاجتماعيين في العالم حين يدرسون مشكلات مجتمعاتهم... كما أنّ شروط المنهج العلمي تستدعي ذلك.
ومثلما يبدو «من وحي الثمانين» كأنه مراجعة لأبرز ما اهتم به الوردي خلال سنوات حياته مفكراً وإنساناً وباحثاً اجتماعياً، يبدو أشبه بالوصية الأخيرة له، في ظل غياب مخطوطاته التي لم يجرؤ على نشرها خلال السنوات الطويلة من حكم البعث... وكان يسرُّ بأفكارها وموضوعاتها الأساسية لأصدقائه ومريديه، ولكن لا أحد يعلم أين هي الآن.
وإذا كان الوردي قد تعرض مراراً إلى الاغتيال المعنوي في حياته، فقد تعرض بعد الاحتلال الأميركي إلى اغتيال من نوع آخر. هكذا، أزيل قبره مع عدد من قبور مجايليه من أبناء العراق الحديث حين استولى تنظيم ديني على مقام «براثا» الذي دفن فيه، لم يغفر رجال الكهنوت لهذا المفكّر ما عدّوه أخطاء، ما زالت كلماته تؤرقهم بعد سنوات من رحيله مثلما أرّقتهم في حضوره! دليل آخر على أن علي الوردي شاهد أساسيّ على عصره المريض.