حيفا ـــ فراس خطيب
البرامج العربية على القنوات الإسرائيلية مسالمة! لا تثير حماسة العرب ولا غضب اليهود. سلطات الاحتلال تخصص بعض «الهوا» للفلسطينيين من باب «رفع العتب». لكن شغلها الشاغل طبعاً مصادرة الهوية، والتشويش على معادلة الجلاد والضحية...

صبيحة أو ظهيرة يوم الجمعة، لا يهمّ... فالصورة دوماً باهتة، الصوت رديء، والمقدّمة التلفزيونية تحاور «شخصيّة»، غالباً ما تكون غير سياسية. وهو أمرٌ إيجابي إلى حدّ ما، فالمكان غير مهيّأ أصلاً للنقاش السياسي، مهما كان الموضوع.
الحوار معروف سلفاً، مضمونه ثابت، وأسئلته لم تتغير منذ سنوات: كيف بدأت؟ من شجّعك؟ وكيف وصلت إلى ما أنتَ عليه اليوم؟ (لا نعرف بالضبط إلى أين وصل). أما مُخرج الحلقة فهو إسرائيلي لا يفهم العربية. فيما المحرر عربي، لا يفقه من اللغة العربية سوى النطق بها.
يختتم اللقاء، يوجّه الضيف نداءًـــــ لا يهمّ لمن ـــــ ثم يغادر البلاتوه. ويبدأ فريق الإعداد التحضير للحلقة التالية من البرنامج نفسه: تخرج المذيعة من «الاستوديو» الضيّق إلى غرفة الملابس، تبدّل ثيابها، ثم تعود بعد ربع ساعة بحلّة جديدة. تجلس في المكان نفسه، لتسجيل حلقة الأسبوع المقبل: يتغيّر الضيف، وتبقى الأسئلة ذاتها. ثم تنتهي الحلقة. تُسارع المذيعة إلى غرفة الملابس، وتعود إلى محاورة ضيفها الثالث... وعلى رغم أن البرنامج يبثّ مرة كل أسبوع، تسجل المذيعة أربع أو خمس حلقات على عجل في يوم واحد. وذلك على طريقة تصوير البرامج الحوارية في السبعينيات، مثل «أريد حلاً» أو «الزراعة العصرية».
هذا هو واقع البرامج العربية التي تعرضها القناتان «الثانية» و«العاشرة» التجاريتان الخاضعتان لـ«سلطة البثّ الثانية» (مصلحة الإذاعة والتلفزيون). رؤية مبنية على «رفع العتب»، ليس لأنّ العرب يعاتِبون، بل لأن القانون يُلزم القناة الإسرائيلية الثانية بتخصيص 5 في المئة كحدّ أدنى من هوائها للبرامج العربية. علماً بأن النسبة تنخفض عاماً تلو الآخر، فيما بلغت 18 في المئة قبل سنوات.
لكن ماذا عن السياسة؟ هناك برنامج إخباري، يتناول عناوين الأسبوع السياسية، مستضيفاً بعض المحلّلين العرب للتعليق عليها. في غالب الأحيان، يكون بينهم صحافي يهودي من صحيفة عبرية، روني شكيد مثلاً، علماً بأن الفقرات الإخبارية السياسية على القنوات الإسرائيلية لا تستضيف أبداً معلِّقين عرباً. يعرض البرنامج أحداث الأسبوع بطريقته الخاصة، فتشعر كأنك سمعتَ الخبر قبل عام أو عامين. ففي وقت تنتشر بين الفلسطينيين الصحافة الإلكترونية، ويُقبلون جميعاً على النشرات الإخبارية في القنوات العربية والتحليلات السياسية في الصحف، يبدو تلخيص الأسبوع السياسي سخيفاً للغاية، لا يضيف شيئاً إلى معلومات المشاهد...
والحديث في هذه البرامج (مثل «الأسبوع»، «استضافات» و«بورتريه»)، وغيرها من البرامج المخصصة للأطفال والشباب، عامٌ جداً، لا يتطرق إلى حدثٍ، بل إلى فكرة. هكذا تشاهد مثلاً برنامجاً ثقافياً يتناول واقع المسرح العربي، ولا يناقش مسرحية عربية محددة. ليس سراً أن البرامج العربية في التلفزيون الإسرائيلي لا تشغل أحداً. تقف موقفاً «مسالماً»، فلا تثير حماسة العرب ولا تغضب اليهود.
ومع ساعات المساء ونهاية دوامات العمل، تنسلّ البرامج العربية بهدوء وتختفي... لا وقت للعرب الآن، وخصوصاً عندما تزداد نسبة الإقبال على الشاشة الصغيرة. وقد وجد المسؤولون على القناة أن حصر غالبية البرامج العربية في ساعات صبيحة الجمعة أو في منتصف الأسبوع، أمراً مناسباً. فالقانون يُلزم المحطة بتخصيص 5 في المئة من برامجها لجمهور لغة الضاد، لكنه لم يحدد توقيت العرض. ويدّعي الإسرائيليون أنَّ القضية «تجارية» بحتة، فهم لا يهتمون بالمشاهد العربي لأنه لا يجذب المعلنين، ما قد يسبب للقناة خسائر فادحة!
لكن مهلاً، قد يطلّ العرب في أوقات الذروة، لكن بطريقة مختلفة: قبل أشهر، نشرت وسائل الإعلام العبرية خبراً عن اغتصاب شبان عرب بدو، يسكنون في قرية بئر المكسور، فتاة يهودية.
قبل الحادثة، كانت هذه القرية مجرّد كيان مجهول للنخب الإسرائيلية، حتى لو كانت موجودة على الخريطة. لكن بعد الواقعة، باتت قبلة ناقلات البثّ الإسرائيلية. كان المشهد مؤلماً: بدا شبان بئر المكسور، كلّهم في قفص الاتهام. يتحدثون العبرية بصعوبة، ويحاولون إقناع المراسل بأنهم «شباب عاديون»، «إذا اتُّهم أحدنا بالاغتصاب، فهذا لا يعني أننا كلنا مغتصِبون». هكذا انقلبت الآية: أصبح الفلسطينيون هم المغتصبون، فيما الإسرائيليون ضحايا!
في منطقة الرملة «المختلطة»، حدث أمر مشابه. هناك، تتفشّى الجرائم والبطالة، ويحاول الإسرائيليون يومياً محو الملامح الفلسطينية عن المكان... اختارت القناة الثانية في برنامج التحقيقات «عوفدا» (حقيقة) أن ترصد ظاهرة «جرائم الشرف» في المنطقة. تناولت الموضوع بإسهاب، وسلطت الضوء على الضحايا العرب. لكنها تعمّدت عدم البحث في خلفيات القتل وآفات المجتمع ودور الشرطة المتخاذل في تطبيق القانون وتنفيذ الأحكام...
هذا ليس كل شيء، فالأخطر من ذلك أن محللي الشؤون العربية في القنوات الإخبارية الإسرائيلية الثلاثة، هم جميعاً يهود: تسفي يحيزكيلي («القناة العاشرة»)، وعوديد غرانوت («القناة الأولى»)، وإيهود يعاري («القناة الثانية»). أما بالنسبة إلى المراسلين العرب في النشرات الإخبارية، فهم أقلية نادرة جداً، بل شبه معدومة إذا ما قورنت بنسبتهم في البلاد. هناك مراسل لأخبار القناة الثانية في غزة اسمه سليمان الشافعي (ربما لأنها غزة)، وآخر لتقارير أخبار يوم الجمعة في القناة الأولى. أما مراسلو الأخبار الإسرائيلية في الضفة الغربية، فهم جميعاً إسرائيليون... وحين أعلن قسم الأخبار في القناة الثانية الشهر الماضي عن موافقته على «ضمّ مراسل عربي إلى صفوفه»، (وهي خطوة تاريخية بعد توظيف سليمان الشافعي)، تبين لاحقاً أنه لا يتسلّم راتبه من المحطة، بل من منظمة إسرائيلية تعمل على «سدّ الفجوات بين العرب واليهود في إسرائيل». ومن بين الذين خضعوا لامتحان القبول، أقرّ أحدهم لاحقاً أن القناة اقترحت راتباً «مُهيناً»، مقابل خمسة أيام عمل في الأسبوع، وأحياناً أكثر. علماً بأن أجور موظفي القنوات التجارية، تصنّف بين أعلى الأجور في إسرائيل.
خلاصة القول: البرامج العربية على القنوات العبرية تمثل إهانة للفلسطينيين، تستخف بذائقتهم وتفكيرهم. كما أن «القناة 33» الناطقة بالعربية، التي أسسها شارون قبل سنوات (راجع الأخبار، عدد 17 أيلول/ سبتمبر)، لم تعرف أبداً كيف تخاطب هذا الجمهور، بل مثّلت خطراً على قضيته، وذلك عبر تبنّيها لهجة تلقينية سطحية، والأهم من ذلك، صهيونية، أكثر بكثير من لهجة القنوات التي تبث بالعبرية. فهل تناسى الإسرائيليون أن هذا المُشاهد لم يعد محدود الأفق، وأن هناك فضائيات عربية، تحاول إخراج الفلسطينيين من حصارهم الإعلامي؟ وسط كل ذلك، أما آن الآوان للفسلطينيين أن يتجاوزوا كل محاولات الاحتلال في عرقلة أي مشروع إعلامي جدّي ومستقلّ، من شأنه أن يعبّر عنهم، يحكي واقعهم، ويساعدهم على مقاومة الإعلام الصهيوني؟