strong>ننشر هنا رسالة الكاتب الجزائري محمد القاسمي، تعقيباً على مقالة الزميل بيار أبي صعب التي ينتقد فيها بعض الخلفيات الثقافية والسياسية لبرنامج تكريم الأدب اللبناني في فرنسا. كما ننشر ردّ التحرير:
العزيز بيار أبي صعب
قرأت بمتعة كبيرة مقالتك التي صدرت في «الأخبار»، عدد 31 ت1 (أكتوبر) 2007 عن احتفاء فرنسا بالأدب اللبناني هذا الموسم (...) لكن مقالتك تستدعي بعض التوضيحات التي أسوقها من دون أي نزعة سجاليّة:
ــــ أنت تعلم بلا شك أنّ مسألة اختيار البلد المحتفى به ضمن هذه التظاهرة، هو دوماً موضع نزاع. وأنا أجاهد منذ ثلاث سنوات ليتم اختيار لبنان، الأمر الذي لم يكن محسوماً على مستوى أصحاب القرار (...)، وأعترف لك بأنّ قرار اختيار لبنان كاد يسقط في اللحظات الأخيرة، لولا إرادة فريق «المركز الوطني للكتاب».
ــــ خلافاً لكلّ ما نشر في الصحافة، لم أنفرد في اختيار الأسماء. لقد شكّلنا لجنة خبراء ضمت شخصيات تعرفها أنتَ خير معرفة: فاروق مردم بك، كاظم جهاد، فينوس خوري غاتا، جيرار خوري، إيف غونزاليس. هؤلاء قرّروا أسماء الكتّاب بعد مشاورات ماراتونية.
ــــ تقوم التظاهرة على مبدأ عدم دعوة أي كاتب يقيم في فرنسا، وقد طبّق هذا المبدأ في الدورات كلّها. وأنا أشاركك في الأسف على غياب هدى بركات أو عيسى مخلوف (...) من هذا المنطلق، حين أشرفت على الدورة التي احتفت بالجزائر (2003) لم ندعُ آسيا جبّار ولا محمد ديب، ولا مالك علولة، ولا نبيل فارس.
ــــ أجريت مع كل كاتب (ة) مقابلة استغرقت ساعة ونصف الساعة (...) فيما الفيلم لا يتسع لأكثر من خمس دقائق لكل كاتب. أنت محقّ بأنّ العدوان الإسرائيلي غائب، لكنني أذكرك بأنّني من المثقفين العرب القلائل الذين حضروا إعلامياً في فرنسا خلال عدوان تموز. لقد كتبت مقالات في الصحافة والإذاعة دفاعاً عن لبنان، ولك أن تتصوّر ردود الفعل على مواقفي في أوساط معيّنة.
ــــ لم أتطرّق في أي لحظة إلى مسألة الطوائف، (...) الوحيد الذي اتّخذ موقفاً راديكالياً كان محمد أبي سمرا، لكنّه موقف بعيد عن الاختزالية. وأنا مقتنع تماماً بأن نقد الفكر الديني أكثر من ضرورة في مجتمعاتنا اليوم (...).
ــــ صوّرتُ في لبنان في نيسان (أبريل) في ظروف صعبة جداً، وكان يفترض أن يبدأ الفيلم مع علوية صبح بين أنقاض عيتا الشعب ومرجعيون، إلا أنّ الجيش اللبناني منعنا من التصوير. وكان مقرراً أن تجرى المقابلة مع محمد أبي سمرا في شبعا، فوجدنا نفسنا في عنجر. حتى في بيروت، لم يسمحوا لنا بتصوير واجهة صحيفة «النهار» (...) واضطر المخرج إلى الاستعانة بصور من أرشيف مؤسسات إعلاميّة أخرى.
ــــ أتفّهم الشعور بالإحباط الذي يولّده في بيروت غياب أسماء من حجم بول شاوول وأنسي الحاج وغيرهما. لكنّ التظاهرة تهدف أولاً إلى اكتشاف أسماء جديدة (...) كفانا أننا نعيش في بلاد يحتكر القدماء حياتها السياسية (...) أنا أتحمّل تماماً مسؤولية اختيار ياسمينة طرابلسي التي تجسّد بموهبتها واقع الدياسبورا اللبنانية، ومثلها زينة أبي راشد التي بدأت تثير إعجاب الجمهور الفرنسي، وهي من رموز جيل ما بعد الحرب.
ــــ تقتصر تظاهرة Les Belles Etrangères كما تعرف على الرواية. لكننا قمنا باستثناء (...) فالشعر له مكانة خاصة في العالم العربي (...) ولا تعرف مقدار سعادتي بتخصيص «بيت الشعر» أمسية لعباس بيضون.
ـــــ بغض النظر عن كل المآخذ، ينبغي لنا أن نعترف بأن هذه التظاهرة أتاحت إصدار حوالى عشرين عملاً لكتّاب لبنانيين، وسمحت بترجمة كتّاب أساسيين مثل علوية صبح (دار غاليمار). ناهيك بالمنابر الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية التي ستوصل، على مدى شهر كامل، صوت لبنان الحقيقي، صوت روائييه وشعرائه، على اختلاف أجيالهم.
ودمت لصديقك محمد.




الصورة ليست بريئة!
العزيز محمّد،
لا أحد يشكّ يا صديقي في مواقفك الوطنيّة من العدوان الإسرائيلي، ومن يحق له أصلاً أن يقيم محاكم التفتيش، ويعطي شهادات في الوطنيّة؟ نقدنا يتوجّه للفيلم حصريّاً، وهو يتوجّه إلى الجمهور الفرنسي. تستحوذ على إدراك المشاهد صور فئة لبنانيّة محدّدة، بشعاراتها ورموزها، بحيث يقيم علاقة أوتوماتيكيّة بين «الوجه الحضاري للبنان» الذي تدافع عنه التظاهرة الأدبيّة، وهذه الفئة السياسية بخطابها ومواقفها... أي إن الجزء الآخر من لبنان وقع ضحيّة الأبلسة والتغييب. هل هي مصادفة؟ أنت تعرف أكثر مني خطورة الصورة واستعمالاتها القاتلة. وحين ينتهي الفيلم على مظاهرات ساحة «الحريّة»، ولا تكون فيه إشارة بسيطة إلى العدوان الإسرائيلي، فإن في هذا الخيار أيضاً موقف سياسي سافر لا يحتمل تأويلاً. لماذا لم يبحث المخرج في الأرشيف عن لقطة واحدة من جرائم العدوان الإسرائيلي؟ أنا لا أحاكم قناعاتك... لقد تحدثت عن «دفتر شروط» عليك التقيّد به. هل يجوز لتظاهرة أدبيّة فرنسيّة أن تأخذ موقفاً من الصراع الداخلي اللبناني؟
لم نقرأ في أي مكان (لا الملف الصحافي، ولا جنريك الفيلم، ولا الكتاب الأنطولوجي) اسم الخبراء الذين شاركوا في اختيار الأسماء. وإلا لشملتُهم في نقدي وعتابي. غريب أن يكون كاظم جهاد قد فضّل ياسمينة طرابلسي على ربيع جابر، وفاروق مردم أو إيف غونزاليس فضّلا شريف مجدلاني على حنان الشيخ؟ ألا تعتقد أن هناك تركيزاً «فرنكوفونياً» مبالغاً فيه، فيما الهدف ايصال أدب اللغة العربيّة؟ لست متمسكاً بالكتّاب الكبار، وأنا متفق معك على أنّهم أخذوا حقّهم وأكثر، لكنني مصرّ على أنّك بدأت «الثورة الشبابيّة» على القدماء من المكان الخاطئ! ما دمتم اخترتم الشعر، فكيف نسيتم بسام حجار، وتذكرتم تاميراس فاخوري التي «تعجب الجمهور الفرنسي»؟ أم أن حجّار بات من القدماء؟
أما عن نقد الفكر الديني، فيفهم من كلامك أننا انزعجنا من جرأة بعض الكتّاب في نقد الدين (الإسلام تحديداً، وليس تزمّت بابا الفاتيكان المحافظ والأصولي مثلاً). وأنت أدرى الناس بأننا نشاطر محمد أبي سمرا وأقرانه نقدهم الراديكالي، وأننا لا نترك معركة فكريّة على امتداد رقعة العالم العربي إلا ونخوضها فوق صفحات «الأخبار» باسم العقلانيّة والتنوير، والمشروع العلماني، وحريّة المعتقد. لكننا نخوض معاركنا هنا في أرض الإسلام، في الأرض العربيّة، حيث للكلمة ثمن، وحيث التغيير حاجة عضويّة... لا في فيلم يتوجّه لـ «الخواجات» ويعزّز الصورة السطحيّة المشوّهة التي يمتلكها المشاهد الفرنسي عن الصراعات الفكريّة والسياسية في لبنان والمنطقة. هنا أيضاً ليس السجال مع الكتاب اللبنانيين الذين نحترم أفكارهم، بل مع خيارات الفيلم الإيديولوجيّة، ومع نزعة الاختزال والتسطيح والتحوير والتلاعب بالحقيقة.
صديقي أتركك الآن على دروب فرنسا، بصحبة زملائك اللبنانيين، لكننا سنعود حتماً إلى هذا النقاش في أحد مقاهي بيروت أو باريس. يعطيك الصحّة آ السي محمد.

بيار أبي صعب