محمد رضا
من أبرز رموز الواقعيّة الجديدة في السينما المصريّة. في السنوات الأخيرة جافاه النقد، واتهمه بالتنازل لمنطق السوق... وها هو صاحب «أحلام هند وكاميليا» يعود بقوّة، رومانسياً حتّى أصابعه... واقعيّاً في علاقته بالقاهرة التي صوّرها كما لم يفعل أي مخرج آخر. تعلّموا أبجديّة الحبّ (والسينما) «في شقة مصر الجديدة»

أفلام محمد خان دائماً رومانسية. ورومانسيّاتها أنثوية حميمة، لكنها لا تخرج عن الطبيعي. وبعدم خروجها هذا، لا يشعر المرء بأنّها مختلفة أو غير حقيقية. محمد خان مخرج واقعي السمات، رقيق الحاشية، ولو أنّ واقعيّته لا تلتقي بالضرورة مع واقعية الراحل الكبير صلاح أبو سيف،ولا تميّع رقّته قيمة النظرة الشاملة التي يعالج بها مواضيعه أو جدّيتها.
لكنّ فيلمه الجديد «في شقّة مصر الجديدة» ـــــ شأنه في ذلك شأن أعماله الأخرى ـــــ ليس فيلماً عاطفيّاً. إنّه فيلم عن العاطفة. يعمد خان الى البساطة نفسها كما عهدناها في أفضل أعماله السابقة. ربما انتقاماً من السنوات الأخيرة التي لم تنجح خلالها أعماله في إثارة حماسة النقاد العرب. فيلمه الجديد رومانسي لكنّ الحكاية لا تقتصر على قصة حب. إنّ خان يعالج شخصيّاته بأطراف أنامله، وخصوصاً النسائية منها (ولا سيما شخصية نجوى بطلة الفيلم التي تؤديها غادة عادل). يمسك خيوطها برقّة كما لو كانت خيوط عنكبوت يخشى أن تنقطع، ويجعل لكل شخصية منها خاصّة منفردة، يعطيها ختماً لا يدمغه بقوّة مخافة أن يؤذي شخصيّته، فإذا بوصمه هذا أكثر من كاف لنقل ذلك الحب الكبير من شخصيّة إلى الأخرى، ومنها إلى العالم، ومنها إلى محمد خان. والعكس صحيح.
تأتي نجوى من القرية إلى القاهرة بحثاً عن أستاذتها (سيناريو وسام سليمان). ما زالت تتذكّر جيّداً، رغم مرور السنوات، تلك الأستاذة التي كانت تحدّث التلميذات عن الحب وجماله، فيحلمن بالحب الرومانسي على وقع عبد الحليم. وكان المخرج قد وظّف سابقاً الغناء القديم أفضل توظيف في فيلمه الجميل «زوجة رجل مهم»، فمنح البطلة يومها (الرائعة دوماً ميرفت أمين) ذلك الطلب المستعصي، لكونها تزوّجت رجلاً شغوفاً بالسلطة والتملّك، لا يعنيه التواصل مع العالم العاطفي. هنا أيضاً، تقف نجوى وأمامها مسافات تريد أن تجتازها حين ترنو إلى تلك الأغاني. تريد استعادة الماضي ببحثها عن تلك الأستاذة التي طردها المدير بعدما اكتشف أن ما تعلّمه ليس «أبجدهوز» أو جدول الضرب (بمعنييه).
تصل نجوى الى القاهرة ومعها عنوان الشقة التي تسكنها المعلّمة، لكنها سرعان ما تكتشف أنّها غيّرت عنوانها بعدما فتح لها الباب يحيى (خالد أبو النجا) الشاب الذي يعمل في البورصة (أبعد أنواع العمل عن الحب؟). يتخلّص يحيى منها بسرعة، ولو بتهذيب مفتعل، ويعود الى صديقته داليا (مروَة حسين)، وهي امرأة من نوع آخر همّها الزواج. وتتوتّر العلاقة بين الحبيبين، بعدما يصير الجنس عاجزاً عن ردم الهوّة التي تفصلهما.
في ذروة هذا الوضع المتأزّم، تطلّ نجوى من جديد في المشهد ومعها هاتف يحيى النقّال الذي قامت بإصلاحه، بعدما أوقعته على الأرض. لكنّ النهار ولّى فإذا بها تضطر إلى البقاء في القاهرة، ما يمنح يحيى فرصة ملاحقتها بعدما انتبه هذه المرة الى مزاياها. هنا، ينجح الفيلم، كتابةً وإخراجاً، في الابتعاد عن المألوف. لن تسمع البطل يتغنّى بمحاسن البطلة ويقول لها «أنت أول حب في حياتي» ولا هي «تدبّل» عينيها وتقول له: «أوّل ما شفتك قلبي قاللي أنت اللي بدوّر عليه». نجوى لم تكن مطلقاً تبحث عن يحيى أو أي رجل آخر، بل همّها إيصال رسالة تقدير الى أستاذتها التي جاءت تبحث عنها في تلك الشقّة.
قبل أن يتحوّل الفيلم الى قصّة حب يختار المخرج أن يحافظ على ما رصفه من عناصر أنثويّة ورومانسية... فيترك نجوى تعود الى بلدتها مع كل ما تشرّبته من تجارب صغيرة تؤلف شجناً كبيراً. لم تتواعد مع يحيى على اللقاء. وذلك من شأنه تجسيد تلك المعالجة الرقيقة والذكية، مع المحافظة على واقعية العالم كما يعمل خان ـــــ بنجاح ـــــ على تصويره.
يتجسّد الحب في الفيلم عبر الأغاني والمباني معاً. يطالعنا في إلفة الناس، وفي تلك اللحظات التي يمضيها البطلان معاً أو على نحو منفرد: الحب كحالة والحب كهدف بحدّ ذاته لدى شخصيتَيه الرئيسيّتين.
أمّا القاهرة، فتبدو هنا قاهرة نظيفة، جميلة، تدعوك لتعيش فيها من جديد. حتّى إنّ نجوى عادت إلى المدينة، عكس يحيى الفخراني في «خرج ولم يعد» إذ ترك المدينة إلى القرية. هل هي ثقة محمّد خان بالمدينة مجدّداً؟ فهذا السينمائي المصري المعروف هو مخرج المدينة بامتياز. تدور معظم أفلامه (20 من أصل 24) في المدينة وعنها، وقد صوّرها كما لم يفعل أي مخرج قبله. ولعلّ «أحلام هند وكاميليا» أحد أفضل روائع السينما المصرية الحديثة، من حيث تجسيده علاقة خان بالقاهرة، ومدى فهمه لما تمثّله له ولشخصياته، هو الذي لا يفوته أن يجعلها تبدو مظلمة حيناً أو ظالمة أحياناً.
الفيلم من تصوير نانسي عبد الفتّاح التي برعت في اختيار الألوان لتواكب الحالة النوستالجية الماثلة في الشريط. كنا نتمنّى فقط، لو أن نصف الساعة الأولى كانت أكثر حيوية. بدأ الفيلم كأنّه يفتقد الحرارة، لكن ذلك يتلاشى حالما تطرق نجوى باب يحيى. ربّما انحنى محمد خان، قليلاً، لعواصف الإنتاج المحلي وأزماته، في السنوات الخمس الأخيرة... إلا أنّه لم يسقط!



ليلى علوي... في حي السيدة

بين آخر إنتاجات السينما المصريّة، نذكر ٣ أعمال تستحق المشاهدة، إضافة إلى فيلم محمد خان: «عين شمس» لإبراهيم البطّوط. دراما إنسانية جديدة في أسلوب عرضها، تتناول ما آل إليه العراق عبر سائق أجرة تصاب ابنته بمرض السرطان. يحقّق البطّوط فيلمه بذكاء ويسند بطولته إلى مجموعة من الوجوه الجديدة التي أجادت تجسيد الشخصيات المسندة إليها. أما «ألوان السما السابعة»، فيعدّ باكورة سعد هنداوي الطويلة، ويتناول قصة امرأة تغرم براقص صوفي. الموسيقى الصوفية وأجواء القاهرة وحي السيدة زينب تلعب دوراً موحياً. وتجسّد ليلى علوي هنا أفضل أداء لها منذ سنين، كذلك فاروق الفيشاوي في دور الراقص. وأخيراً، «بلد البنات»، باكورة عمرو بيومي الروائية. يؤسس المخرج هنا عالماً من الأحلام الوردية في سلسلة من المواقف المتأزّمة عبر أربع فتيات يتشاركن الدراسة والمسكن، لكنهن ينفصلن بمشاكلهن كما في النتائج.