مهى زراقط
تنطلق اليوم أعمال المؤتمر الإعلامي الذي تنظّمه جريدة «الأخبار» تحت عنوان «الإعلام في مهب الصراعات: الموضوعية على المحك»،بمشاركة إعلاميين بارزين من أوروبا والعالم العربي ولبنان. كيف وُلدت فكرة هذا المؤتمر، وما خلفياته وأهدافه؟
جريدة تنظّم مؤتمراً إعلامياً... الخبر ليس فريداً من نوعه. يحصل هذا في المؤسسات الإعلامية الغربية، وبنسبة أقلّ في المؤسسات العربية، بحيث نشهده في مناسبات معينة مثل إحياء عيد تأسيس، أو احتفاءً بمناسبة أو جائزة أو... وغالباً ما يصاحَب مؤتمر مماثل بترحيب كبير في الوسط الإعلامي العربي المتعطّش إلى لقاءات من هذا النوع، يجري فيها تبادل خبرات وشكاوى وحلول.
وإذا كانت المؤتمرات التي تنظّمها مؤسسات إعلاميّة عربيّة، نادرة نسبياً، فالسبب ليس على الأرجح سوء تقدير لأهميّة مثل هذه المناسبات، بل عوائق ماديّة مختلفة. لذلك غالباً ما تلجأ المؤسسات الإعلامية المهتمة بمناقشة شؤون المهنة، والساعية إلى تطوير أدائها، إلى عقد ورش عمل داخلية تكون تكلفتها المادية أقلّ وفائدتها أكبر.
هذا على الأقلّ كان توجّه «الأخبار» منذ تعرّفت إلى إدارة جريدة Information الدنماركية، واتفقت معها على تعاون مشترك بدأ بتبادل مراسلين بين أسرتي تحرير الجريدتين. لكنّ حجم المشاغل المشتركة والأسئلة المطروحة في الشمال والجنوب على السواء، تطوّر سريعاً إلى ضرورة تنظيم لقاء شامل يستضيف أسماءً ومؤسسات عربيّة عالميّة. وسرعان ما انضمت جريدة Le Monde Diplomatique الفرنسيّة العريقة إلى المشروع، فكان المؤتمر الذي يبدأ أعماله اليوم، تحت عنوان عريض، راهن أكثر من أي وقت مضى: «الإعلام في مهبّ الصراعات: الموضوعيّة على المحكّ».
المبادرة جاءت من Information التي سعت، منذ أزمة الرسوم المسيئة إلى النبي محمد في الدنمارك، إلى محاولة التواصل مع المجتمعات العربية بحثاً عن أسباب الهوّة التي تفصل بين الثقافتين. ويروي زملاؤنا في المؤسسة الصحافيّة الدنماركيّة قصصاً طريفة تختصر معاناتهم خلال رحلة البحث عن شريك في عدد من الدول العربية، قبل أن تقودهم خطواتهم بشكل طبيعي إلى «الأخبار» البيروتيّة. فقد صدم هؤلاء بعدم إدراك كثير من أقرانهم في هذا المقلب من العالم أهمية العمل الصحافي، وضرورة طرح الأسئلة المهنيّة والأخلاقيّة. ونقلوا عن بعض أصحاب المؤسسات الإعلامية اعترافهم بأنّهم متورطون في أمر لا يفقهون منه شيئاً!
بعد الاتفاق مع Information، تحمست للمشروع مؤسسة International Media Support المهتمة بـ«تمكين وسائل الإعلام في الدول النامية»، والساعية إلى إقامة حوار بين العاملين في وسائل الإعلام الشرق الأوسطية والأوروبية. فكان أن عرضت المساهمة في تمويل ندوة إعلامية صغيرة ومحدودة الإطار.
لكن مع بدء التحضير لهذه الندوة، وجدت إدارة «الأخبار» نفسها أمام عشرات الصحافيين الراغبين في المشاركة في أعمال هذه الندوة، ما دفع إلى التفكير في توسيعها، وبالتالي البحث عن مموّلين جدد. وكانت المؤسسة الألمانية Heinrich Boll Foundation أول من لبّى الطلب وساهمت بدفع مبلغ قريب من المبلغ الذي ساهمت به «IMS» أضيف إلى الموازنة.
هذه باختصار قصة ولادة المؤتمر، وهي تسلّط الضوء على أحد أهم العوامل التي تؤثر في العمل الصحافي، أي التمويل. أما المؤتمر بحدّ ذاته فسيعرض لواحدة من أبرز إشكاليات العمل الإعلامي اليومي، وخصوصاً في عالمنا (الأحادي؟) اليوم ألا وهي الموضوعية.
لم يأت العنوان العريض للمؤتمر وليد المصادفة، على الأقلّ بالنسبة إلى جريدة «الأخبار». هذه الجريدة ولدت في ظرف استثنائي، فقد صدر العدد الأول منها يوم وقف العدوان الإسرائيلي على لبنان في 14 آب (أغسطس) 2006. ووجدت نفسها فجأة في قلب انقسام سياسي داخلي حاد، لم تتردد في إعلان موقفها منه... وفي الوقت نفسه، كانت مصرّة على التزام كامل الشروط المهنية. ما جعل النقاش حول مفهوم الموضوعية هاجساً يومياً يطغى على جلسات العمل واجتماعات التحرير. ولا نبالغ إذا اعتبرنا مداخلات اليوم والغد والمناقشات المرافقة لها في فندق «مونرو» البيروتي، امتداداً لنقاشاتنا اليوميّة داخل التحرير. وتأتي أعمال المؤتمر لتعمّق معالجة عدد من الأسئلة الأساسيّة المطروحة على كل الإعلاميين العرب، انطلاقاً من تجارب «الأخبار» وInformation، وLe Monde Diplomatique.
هل الموضوعية باتت مصطلحاً فضفاضاً، يبدو لمثاليته غير قابل للتطبيق، وخصوصاً بعدما اقتصر تعريفه في العالم الغربي على «إبراز وجهتي النظر: مع وضد»، من دون إقامة أي اعتبار مثلاً لمن هم في الوسط؟ والأهمّ كيف نحدد قطبي الـ«مع» و«الضد»، وموقع أحدهما بالنسبة إلى الآخر؟.
ويصبح الأمر أكثر تعقيداً إذا غصنا أكثر في التفاصيل اليومية لكتابة الخبر، واستخدام المصطلحات، واختيار المقاربة التي نريدها لمعالجة موضوع معين. الموضوعية قد تعني عندئذ عدم مخالفة المفاهيم والقيم السائدة. بدءاً بالحديث عن الديموقراطية مثلاً، مروراً بوصف فئات أو مناطق معينة بتعابير «موضوعية» (المثال اللبناني الأقرب هو استسهال وصف المخيمات الفلسطينية بالبؤر الأمنية، والعمال السوريين بالغرباء، وكلّنا نعرف معنى «الغريب» في الثقافة اللبنانية)... وليس انتهاءً بمنع انتقاد مؤسسات باتت تعدّ مكرّسة... كأنّها محصّنة بهذا «التكريس».
هذا غيض من فيض ما تحاول «الأخبار» طرحه اليوم على الساحة الإعلاميّة العربيّة، بعيداً عن المحظورات والحدود الموضوعة سلفاً للنقاش، وغير ذلك من «قوانين الصمت» والتواطؤ... على قاعدة المهنية والتزام شروطها، انطلاقاً من قناعة ثابتة بأن أقصر الطرق إلى الموضوعية (الحقيقة) هي المهنية. هذا ما تحاول طرحه أيضاً مؤسسات كبرى، سارعت إلى دعم المؤتمر، مثل «لوموند ديبلوماتيك» صاحبة التجربة الصحافية المميزة في فرنسا، ولا سيما من خلال اضطلاعها بدور رائد في مناقشة الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية المغيّبة على الصعيد الأوروبي، وصعيد العالم الثالث... الأمر مماثل بالنسبة إلى جريدة «انفورماسيون» الدنماركية التي تعرّف عن نفسها بأنها جريدة معارضة، والتي ولدت كوكالة أنباء قبل 62 عاماً على يد حركة المقاومة الدنماركية المناهضة للنازية، وبعد انتهاء الاحتلال النازي تحوّلت إلى جريدة يومية. ولادة غير بعيدة عن ظهور «الأخبار»... كما يطيب لمحرري الجريدتين أن يروا!
يبدأ المؤتمر أعماله اليوم ويتضمن ثلاث ورش عمل تتناول المصطلحات الإعلامية، مفهوم الموضوعية وحدودها. ويناقش غداً في أربع جلسات القيود التي تعترض عمل المراسلين، دور صفحات الرأي، انتشار المدوّنات، إضافة إلى جلسة ختامية تتضمن توصيات.


يحاضر في المؤتمر إعلاميون وباحثون مثل رودولف القارح، ونهلا الشهال، وجهاد الزين، وحسام عيتاني، وماجدة أبو فاضل، وبول خليفة، وعبد الوهاب بدرخان (لبنان)، ياسر منيف (سوريا)، وائل عبد الفتاح، ووائل عباس، ورانيا المالكي، ودينا حشمت (مصر)، ياسين التملالي، وعثمان تزغارت (الجزائر)، آلان غريش، وريشار لبيفيار (فرنسا)، بالي ويس، ولاسيه جينسن، وماتي نيلسون، ومارتن إليغارد، ونير روزن (الدنمارك) وكلانسي تشايسي (بريطانيا)...

تنطلق أعمال المؤتمر عند الساعة التاسعة والنصف صباح اليوم في فندق مونرو ـــــ بيروت. للاستعلام: جريدة «الأخبار»، هاتف: 01759500