عبد المجيد زراقط
كثيرون يعرفون أن معالي الوزير أديب قبل كل شيء. هذا ما تؤكّده روايته الجديدة التي يدخل الشعر في صميم بنيتها. يكتب «مالك الجردي» أسطورة الرجال العشرة في طريقهم الى القمة، ونستمع إليها من «ورد»... شهرزاد الجديدة

«قمّة الرجال العشرة» عنوان رواية جديدة للدكتور طراد حمادة، صدرت أخيراً عن «دار الريس» في بيروت. يُفهم من الإهداء الذي تبدأ به أنّ «الرجال العشرة» أسطورة، وأنّهم «قضوا» في أعلى القمة... الأسطورة ترد على لسان الراوية ورد، وهي الجدّة المفترضة لزوجة المؤلف بوصفها جوهراً أنثوياً. يهدي المؤلّف الرواية إلى زوجته التي تكمل على لسان العشق سريان الأسطورة، ما يشير الى هوية العاشقين اللذين يقصدان «ورد»، امرأة الحكايات لتحكي لهما الحكاية.
هل نقول إنّ هذه الرواية هي رواية أسطورة العشق؟ ما يعني تداخل نوعين قصصيّين هما الأسطورة والرواية، أولهما: قديم قدم الإنسان، يجسّد بلغة الخيال سعي الإنسان القديم، خارق القوى، الى السيطرة على عالمه من طريق الحلم اليقظ المشبع بالخوارق، ويحكي ثانيهما سعي الإنسان العادي، الفرد، إلى تحقيق ذاته في عالم واقعي، فينجز هدفه أو يخفق. كما ينتظم عنصر آخر في بناء هذه الرواية، وهو العنصر الفكري ـــــ الفلسفي، العرفاني...
إذا قرأنا الرواية والنصوص الشعرية المتضمّنة فيها، نتبيّن العنصر الشعري بوصفه مكوّناً آخر من مكوّناتها، ينتظم والعناصر الأخرى في إنشاء بناء قصصي تكوّنه هذه العناصر المتنوعة. ويمكن أن يعدّ تجريباً يضيف الى الأشكال القصصية شكلاً جديداً ينطق برؤية جديدة. والواضح أنّ هذا الشكل الجديد شكلٌ متجدّد ينتمي إلى القصّ العربي القديم المتعدّد الأنواع والأشكال، ويفيد من الأشكال القصصية الحديثة.
تبدأ الرواية بـ«كان يرى حقل النور...». ثم يأتي الخطاب لغةً مجازيةً تمثّل «جذبة العشق» فنسأل: من هما العاشقان اللذان يمثّلان أسطورة العشق؟
يشير بدء الحكاية إلى تفتّح أسطورة «قمة الرجال العشرة». قد يكون لهذه القمة، وللأماكن الأخرى في الرواية، مثل، «البركة الزرقاء» «العين الزرقاء» وجود وقائعي، لكن الرؤية المركّبة: الحكائية الأسطورية/ الروائية/ العرفانية/ الشعرية... تجعل هذا الوجود وجوداً متخيّلاً.
السؤال الذي يطرح هنا هو: ما هي الحكاية الأسطورة التي يقدمها الراوي؟ هذا الراوي العليم الذي يعرف كل شيء، وينقل معرفته الشاملة بلغة مجازية في الغالب، لا تخلو من استعارات من المعجم اللغوي للفلاسفة العرفانيين... يلتقي العاشقان، يجلسان على ضفاف السواقي الجارية من محيط «البركة الزرقاء»، ينسيهما حديث العشق تقدم ساعات النهار، فالكلام اللذيذ الذي يتبادلانه تنقّل بين دروب المعارف وتعرجاتها... ويمضيان في درب البحث عن ذاكرة المكان، وفي هذه الذاكرة عن أسطورته، ويعقدان العزم على أن يبحثا عن السرّ الأخفى.
تتمثّل الشخصية الرئيسية، في هذا القسم من الرواية، بالعاشقين، ويتمثل هدفهما في معرفة السر الأخفى لذاكرة المكان... يبدأ السعي الى تحقيق الهدف بالتأمل والحوار، ثم تقول هي: «تأخذني الى جدتي ورد نستمع الى أقاصيصها... وورد، كما يقدمها الراوي، عجوز، عيناها غائرتان من وطأة العمر، تبدوان نافذتين كبصيرة الزمان. ورد هي من يقدّم المعرفة، سرداً، أي معرفة متخيلة فنية، غير مباشرة، فهل هي شهرزاد تتجدّد؟
يقول الراوي بعد لقائها: «حدثتني عن زوجها مالك...». ونتعرّف الى مالك، فإذا هو شخصية أسطورية. خدم مالك الذي نشأ يتيماً في فرقة الانكشارية، وبقي يحتفظ بسلاحه كما يحتفظ بامرأته. بقيثارته جذب إليه ورداً، كان حنوناً وقوياً، ولم تنجب ورد إلا بعدما لامست حافة اليأس. فوضعت كوثر التي عاشت مدللة سعيدة، وتزوجت باكراً رجلاً على شاكلة أبيها امتهن التجارة، وأقام وإياها في البلدة، وأنجبا أربعة صبيان وابنتين. كانت ورد تكثر من زيارة الأسرة السعيدة فيما كان مالك يكتفي بزيارتين في العام، وبسماع حكايات زوجته قائلاً: «إن الجبال متراسه الحصين ضد الموت».
تقرر ورد أن تبقى إلى جانب ابنتها... ويقرر مالك البقاء في مسكنه الجبلي، واعداً زوجته بالانتقال الى البلد في الشتاء المقبل. في وحدته، يتحدث عن أحلامه بلغة مسّجعة كأنها ترجيعات عشقه، أو أنشودة حاله، وقد حطت به الأحوال في مقام السفر.
تقابله، عند ملتقى السماء والأرض، قمة الرجال العشرة، فيشعر وهو وحيد في منزله كأنه حي بن يقظان في جزيرة المعارف. لم يبقَ معه سوى سلمان، وهو فتى ربّاه بعدما مات أبواه، فصار يرعى شؤونه بثقة ودراية، ويفعل ما يفعله برغبة المريد في التقليد، ويسأل ما يسأله سعياً الى التعلّم. يقول مالك للرجال الباقين في الجبل، ومنهم سلمان: «ترحلون، وأرحل...».
أمضى يومين وليلة وحيداً على جمر انتظاره. أبقى نفسه في حالة الحيرة ومقام الانتظار، ثم جاءت قافلة، وفتح باب دارته للزائرين، كانوا تسعة رجال... باتوا ضيوفاً مكرّمين، ولما قالوا مؤثرين التلميح إنهم اعتادوا أن يصطحبوا دليلاً في أسفارهم، عرض أن يكون الدليل، فرحّبوا، وغدا الرجال عشرة...
في ليلة الرحيل يجفو النوم مالكاً، وتبدو أمامه مسالك كثيرة، ويروح في غيبوبة تأملات وتداعيات. وعندما يفيق يمسك ريشته السحرية، ويكتب على جلد ماعز عتيق أسطورة الرجال العشرة كما حضرته من يقظة روحه. يكتب مالك الجردي أسطورة الرجال العشرة العازمين على الرحيل إلى القمة. يكتبُ الرجالُ العشرة على لوحة فضاء القمة أنّهم قضوا. تسرد ورد الرواية متخيّلة تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل. يأتي العاشق ويرويها في شكل قصصي متميز بلغة مجازية مشبعة بالمعجم اللغوي الفلسفي ــــ العرفاني. والبناء القصصي يتكوّن من عناصر كثيرة متنوعة، مرتبطة بنظام علاقات يمثّل شكلاً مبتكراً، يمكن عدّه تجلياً جديداً للمثاقفة بين القصّ العربي القديم والقصّ الحديث. وقد نهض هذا الشكل بأداء مهمته، فكشف سر ذاكرة المكان القائم بين السماء والأرض، والمسمّى قمة الرجال العشرة.
هكذا تتألّف رواية طراد حمادة الجديدة، من وحدتين أساسيتين: تروي أولاهما سعي العاشقين الى معرفة السر الأخفى لذاكرة المكان، وتروي ثانيتهما سعي مالك من مقام الانتظار الى مقام السفر. وفي حكاية هذا السفر يتمثل السر الذي يبحث عنه العاشقان...