strong>بشير صفير
• قصيدة سمفونيّة «محافظة»: كلّنا في الهمّ «شرق»

لم تكد تنتهي جولته الأميركيّة الصاخبة تحت راية الأغنيةالملتزمة، حتّى صدر عمله الأوركسترالي الجديد، بعد أسطوانتي «مداعبة» و«تقاسيم». مرسيل خليفة فنّان مزدوج، فمتى يقبل المستمع العربي بهذه الحقيقة؟

لا تحتاج الأسماء الكبيرة في عالم الفنّ إلى دعاية، ولا يجدي النقد نفعاً في تناول إنتاجها أو توجيه المتلقي في كيفية التعامل مع هذا الإنتاج. ولا يشذ مرسيل خليفة عن هذه القاعدة، إذ يشكّل صدور أسطوانة موسيقيّة صرفة لهذا الفنان اللبناني حدثاً محلياً وعربيّاً قبل أن يسمعها أحد. «شرق» هو عنوان البانوراما الملحميّة التي يقدّمها مرسيل خليفة اليوم إلى جمهوره. يعود إلينا بعد إبحار في أعماق الموسيقية الشرقية وتراثها المكتوب. وقد سبقت تلك التجربة التفاتة إلى عالم الارتجال في موسيقانا، أي التقسيم، من خلال أسطوانة «تقاسيم» التي صدرت منذ سنة تقريباً.
لكن على رغم الهالة المعنويّة التي تحيط بالحدث، يبقى السؤال مطروحاً: ما هي الطريقة المثلى لتقديم هذا العمل إلى جمهور يتمسّك بصورة مرسيل الفنان الملتزم الذي «تخلّى» عن القضية منذ فترة؟ كيف يمكن استفزاز الذوق أو العلم (أو الاثنين معاً)، بعيداً عن الذاتية التي من شأنها أن تظلم الفنان أو تعطيه حقاً لا يستأهله؟ هل هناك طريقة لاستعادة رضا الجمهور، سوى أن يخلق الفنّان «صدمة» على طريقة الدادائي مارسيل دوشان الذي حوّل ذات يوم «مبولة» إلى عمل فني، وأحدث زلزالاً في مفهوم الجمال وماهية الفن؟
إذا شئنا الإحاطة بـ«شرق»، هذا العمل الضخم الذي يوقّعه خليفة، فلا يسعنا سوى اعتماد النظرة الشاملة إليه من جهة، وتقسيمه زمنياً على أساس أبرز تحوّلاته... لأنّه عبارة عن مقطوعة طويلة واحدة (حوالى 47 دقيقة) تتخللها تنويعات إيقاعية ودينامية في سياق «لوحة تذكارية» تعكس أصداء الموسيقى الشرقية.
تنتمي مقطوعة «شرق» في الشكل إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية، والكتابة الأوركسترالية الضخمة. أما نمطها، داخل فئتها، فيميل إلى التيار المحافظ بشدة. ويمكن نسبها إلى ما كان يُعَدُّ محافظاً في النصف الأول من القرن العشرين، أي التيار الذي كان يومذاك يواظب على محاكاة نهايات العصر الرومنطيقي، متجاهلاً إنجازات التيارات الطليعية التي برزت منذ مطلع القرن العشرين، كاللامقامية (مدرسة فيينا الثانية) والمينيمالية والتجريبية، أو الانطباعية الفرنسية قبل ذلك بقليل. كما يمكن الذهاب أبعد من ذلك في التعاطي مع عمل خليفة الجديد، وحصر التصنيف بعمل واحد معروف جداً هو «كارمينا بورانا» للمؤلف الألماني كارل أورف (1895 ـــــ 1982) الذي يقف على الطرف النقيض للطليعية، حسب تصنيفات علماء الموسيقى ومؤرخيها.
وإذ نحصر المقارنة بين «شرق» خليفة وعمل معروف واحد، فإن ذلك لا يعود فقط إلى القالب المحافظ الذي يؤلف ضمنه مرسيل خليفة، ولا فقط إلى اعتماده على الكورس الضخم إلى جانب أوركسترا فيلهارمونية. هناك أيضاً في «شرق» جمل موسيقية لا يمكن إلا أن تذكر بـ«كارمينا بورانا». حتى إنّ بعض تلك الجمل المتشابهة، أتى في الموقع نفسه بالنسبة إلى بنية العمل ككل. في البداية مثلاً التي يستهلها التيمباني (طبول تستعمل في الأوركسترات خاصة)، وتلاقيه مباشرة الصنوج والأوركسترا ووحدة الكورس الصوتية.
ويستعيد مرسيل خليفة في هذا العمل الضخم ألحاناً من التراث العربي من قدود وموشّحات أندلسية، يعيد صياغتها ويلوّنها بجمل متوافقة تخرجها من صورتها المألوفة في ذاكرتنا. تتوالى هذه الاستعارات أحياناً وتغيب لمصلحة جمل جديدة، كتبها مرسيل لتشكل جسوراً موسيقيّة بين المحطات المألوفة. ويعتمد في معظم الأحيان التنويع على هذه الجمل (القصيرة إجمالاً)، أو تكرارها من خلال توكيل مهمة أدائها إلى عائلات الأوركسترا منفردة أو مجتمعة. وهذا ما يجعل العمل فقيراً بجمله اللحنية نسبة إلى مدته الزمنية... لكن ذلك يقدّم فرصة تلقّي الجملة ذاتها بأشكال صوتية مختلفة.
والعمل الذي يأخذنا من حالة إلى أخرى، بخفّة شديدة من خلال التغييرات الإيقاعية، يقع في الرتابة عند دخول الكورس الذي يشكّل كتلة صوتيّة واحدة في معظم الأحيان (مونوفونية أي الغناء على طبقة واحدة، أو بولفونية أي الغناء بالتوزاي على أكثر من طبقة). أضف إلى ذلك أنّ التوافق في ما بينها لا يحتلّ حيزاً قادراً على نقل المستمع إلى فضاءات مختلفة خلال الجملة الواحدة.
وينأى مرسيل مرةً ثالثة بعد أسطوانتيه السابقتين «مداعبة» و«تقاسيم» عن الكلام والنص الشعري، إذ يقوم الكورس بأداء صوتي من دون كلام (Vocalise). ويقابل وحدة الكورس في الأداء طوال المقطوعة، انفرادٌ وحيد للسوبرانو في أداء لحن بعيد عن الموسيقى الشرقية، ليس سوى جملة مأخوذة من لحن الفرنسي جوزيف كوزما لقصيدة جاك بريفير «أوراق الخريف» Les Feuilles Mortes (الدقيقة 27 و 6 ثوانٍ).
«شرق» التي تعزفها الأوركسترا الفيلهارمونية الإيطالية (بقيادة كارل مارتن) إضافة إلى كورس، هي قصيدة سيمفونيّة أو رابسودي أوركسترالية، يرسم من خلالها مرسيل خليفة اللوحة الموسيقية للشرق بألوان يستطيع الجمهور الغربي فهمها. ولو أنها ستنال إعجاب الشريحة المحافظة منه فقط، لا المستمع المعني بالموسيقى الكلاسيكية المعاصرة الحديثة. لكن ماذا تراه يكون رأي الجمهور اللبناني فيها إذا قُدمت في بيروت؟ هل تكتنف «شرق» العناصر الجماليّة الفنّية الكفيلة بالتخفيف من وطأة عمل موسيقي طويل، من دون كلام، بشكل يجعل المستمع العربي «يصمد» حتى النهاية؟
قبل أن يعلو تصفيق الجمهور الإيطالي (بياسينزا تياتر) في هذا التسجيل الحيّ لـ«شرق»، تعود جملة البداية لتعلن الختام، كأنّ المقطوعة تنغلق على نفسها تحسّباً لـ«وعود من العاصفة».

«شرق» أسطوانة وdvd، إنتاج «شبكة الجزيرة» توزيع Connecting Culture
Nagham Records
www.marcelkhalife.com