لا يمكن لجمهور الفنّان مرسيل خليفة أن يتخيّله عازفاً صامتاً على المسرح، أو اسماً ممهوراً على غلاف أسطوانة تتضمّن مقطوعات موسيقية خالية من الكلمة والنص الشعري، أو القصيدة الثورية التي تحمل نبض محمود درويش. فالذاكرة الشعبية الجماعية تحفظ صورة مؤسس فرقة الميادين الذي يؤدي أغانيه الملتزمة، ولو أنّه يفرد دائماً في ألبوماته فسحةً للموسيقى، أو يدعم أغنيته أحياناً بمقدمة موسيقية طويلة تسبق الكلمات. ولم يتعاط الجمهور مع ما كتبه من موسيقى تصويرية واكبت بعض الأعمال الراقصة أو الأفلام السينمائية، سوى كحالة استثنائية تسير في ظلال مشروع خليفة الموسيقي القائم على الأغنية الملتزمة في الدرجة الأولى.وعندما صدرت أسطوانة «مداعبة»، الموسيقية بامتياز، ظن جمهور مرسيل أنّها محطة عابرة أراد منها خوض تجربة جديدة يمكن من خلالها جسّ نبض المستمع اللبناني في تفاعله مع «الموسيقى الصامتة» (كما درجت عادة تسمية الموسيقى التي لا يدخل فيها الكلام أو النص الشعري). وقال بعضهم إنّ مرسيل أراد من «مداعبة» فسح المجال أمام لقاء موسيقي صرف مع نجليه رامي (بيانو) وبشّار (إيقاعات) وموسيقيين آخرين. وقدّم فيها مقطوعات جديدة، واستعادة آلاتية لأغنية «جواز السفر» بتوزيع جديد، علماً بأن الفنان الملتزم كان يحلم على الدوام، منذ «جدل» وقبلها ربّما، بأن ينصرف للتأليف الموسيقي. بعد «مداعبة»، أصدر خليفة أسطوانة يدلّ عنوانها عليها: «تقاسيم». كان ذلك منذ سنة، واعتبر الجمهور هذه التجربة حاجةً بديهيةً لدى عازفي العود، أي الاختلاء بهذه الآلة كما فعل ربيع أبو خليل في أسطوانةIl Sospiro على سبيل المثال. ولو أنّ المادة الموسيقية التي حوتها «تقاسيم» يشارك في تكوينها الكونترباص والإيقاعات بشكل طفيف.
ومن جديد، ها نحن اليوم أمام مرسيل غير المغنّي في عمل أوركسترالي، وكورس يقتصر إنشاده على الصوت العاري من الكلمات. فهل نعتبر أنّ الموسيقي اللبناني تخلى نهائياً عن الكلمة، ولم يعد يجد في النص الشعري وسيلةً للتعبير؟ هل أنّه ملّ صورة «المغني الملتزم»؟ أم تراه التجأ إلى التجريد في مرحلة سياسيّة ضبابيّة، لبنانياً وإقليمياً وعالمياً، لم يعد يجرؤ على الخوض في وحولها؟ في كلّ الأحوال، يصعب أن نصدّق أن مرسيل قطع حبل السرّة مع جمهوره الواسع، جمهور أغنياته المناضلة الذي لا يعبأ كثيراً بالتأليف السمفوني. بدليل جولته الأميركيّة الأخيرة!