مهى زراقط
يرى دنيس سيفرت أن الصحافي ليس عليه مراعاة
«التوازن»، بل فضح الـ«لا توازن» الذي يتحكّم بالإعلام. زار مدير تحرير مجلّة Politis بيروت للمشاركة في ندوة عن «الرقابة وأشكال العرض»، فحاورناه حول حدود «الموضوعيّة» في المهنة، محور المؤتمر الذي نظمته «الأخبار» الأسبوع الماضي


لا يزعج دنيس سيفرت أن يُنعت بـ«الصحافي الملتزم»، بل هو من يبادر إلى التعريف بنفسه هكذا، في إطار السؤال عن الالتزام في العمل الصحافي، ومهنية من يمارسه. لكن هذا الوجه البارز في الإعلام الفرنسي، يميّز بين الصحافي الإيديولوجي، والصحافي الملتزم. كيف ذلك؟ يعطي المثل التالي: يصل إلى المؤسسة الإعلامية خبر بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون صرّح بما يلي: «ياسر عرفات هو بن لادن إسرائيل». التعامل مع هذا الخبر يكون ـــ وهذا ما حصل ـــ بنقله كما هو... وتحقيقاً للموضوعية، قد تنشر المؤسسة الإعلامية ردّ الطرف الآخر على ما قاله شارون.
سيفرت الذي لا يضع نفسه في موقع الأستاذ، لأنه لا يزال يطرح على نفسه الكثير من الأسئلة، يملك رأياً مغايراً في كيفية معالجة هذا الخبر «الذي يتضمن مستويين من الحقيقة»: المستوى الأول هو أن شارون صرّح فعلاً بما صرّح به. والمستوى الثاني هو أنّ ما قاله شارون (إذا لم نصفه بالكذب)، يندرج في إطار خطاب إعلامي سياسي له مآربه. والصحافي الذي يكتفي بنقل هذا التصريح، حرصاً على الموضوعية كما يعتقد، يكون قد وقع في فخ الترويج السياسي أو الموضوعية المضادة، إذا جاز التعبير.
هنا تبرز أهمية الالتزام: على الصحافي أن يذكر تصريح شارون، لكن عليه أيضاً أن يضيف إلى خبره، الخلفية التي يعرفها. وهي (مثلاً) أن شارون حاول في هذا الخطاب الاستفادة من أحداث 11 أيلول لما لها من تأثير، لنزع الشرعية عن عرفات، وأن المقارنة بين عرفات وبن لادن غير منطقية... الالتزام هو الاطلاع على الحدث، ومعرفة تفاصيله، ثم اتخاذ موقف منه... لأن «الصحافي الحقيقي هو الذي يتخذ موقفاً مما يعالجه، انطلاقاً من معطيات، لا من إيديولوجيا».
لا يمكن تقدير أهمية هذه الخلاصة، إلا إذا تصوّرنا عواقب الممارسة «الموضوعيّة». مثالٌ آخر: خلال المفاوضات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية في كامب دافيد (تموز/ يوليو 2000)، حرص السياسيون الإسرائيليون على الترويج الإعلامي المنظّم لما يلي: نحن نقدّم «عرضاً كريماً» للفلسطينين، نقترح عليهم «تقاسم» القدس. إلا أنهم يرفضون، وهذا يعني «عدم وجود شريك فلسطيني للسلام».
يرى سيفرت أن هذه الرواية الإسرائيلية القائمة على تكرار ثلاث عبارات: عرض كريم (offre généreuse)، وتقاسم القدس (partage de Jerusalem)، وغياب الشريك الفلسطيني هي ما أدى إلى خسارة الفلسطينيين معركة المفاوضات... علماً أن إسرائيل لم تقدّم عرضاً كريماً، وأن ما ادعت بكونه تقاسماً للقدس، ليس إلا مفاوضات تتعلّق بقرية أبوديس المحاذية. لكن هذه الحقيقة لم تعرف إلا بعد مرور الوقت.
هنا يتحمل الصحافيون جانباً من المسؤولية، لأنهم لم يحاولوا البحث عن حقيقة ما يدور، بل اكتفوا بنقل ما تيسر لهم من تصريحات، إضافة إلى افتقار الفلسطينيين في تلك اللحظة للمهارة الإعلامية الكافية، أو عدم تقديرهم للأثر الذي تركته الماكينة الإعلامية الإسرائيلية في الأوساط الغربية. يوضح سيفرت: «لاحقاً، أعدّ الفلسطينيون ملفاً موثقاً بالخرائط التي تدحض الادعاءات الإسرائيلية في هذا الإطار».
و«لاحقاً» هذه، تعني متأخراً جداً، بالنسبة إلى الصحافة الخاضعة لما يسميه سيفرت «استبداد الحاضر» أو استبداد اللحظة الراهنة (tyrannie du présent). وهنا، ندخل في نقاش مشكلات المهنة المتعددة، التي قد تكون أحياناً في استخدام الصحافي لمصطلحات غير دقيقة، ومنها ـــ المثل أيضاً من فلسطين ــــ استخدام الإسرائيليين لمصطلح «الردّ» أو «المجازاة بالمثل»، أو مصطلح «إرهابي» و«إسلامي» و«الجدار» (أمني أو عنصري...). وهي مصطلحات تقلب الحقائق.
لكن الأمر لا ينجح دائماً كما حصل خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. إذ يرى سيفرت أن «الإسرائيليين نجحوا لوقت قصير فقط في الترويج لعملية «الردّ» على أسر الجنديين. لكن ضخامة «الردّ»، والصور التي تلاحقت من لبنان، لم تترك للرأي العام والصحافيين أن يبقوا على مواقفهم».
هل هذا يعني أن الصورة في لبنان هي التي ربحت؟ ولماذا لم تنجح صور فلسطين المشابهة في فظاعتها، في تغيير الموقف أيضاً؟ يجيب سيفرت: «لا شك أن في الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي، كان الطرف الإسرائيلي غالباً هو المنتصر على الصعيد الإعلامي. لكن هناك محطات في تاريخ هذا الصراع، نجح خلالها ياسر عرفات في قيادة معركته الإعلامية جيداً... ما يهمّ قوله في هذا الإطار هو أن الرأي العام الغربي (الفرنسي خصوصاً) يدرك جيداً التجاوزات الإسرائيلية، ويعطي الفلسطينيين الحق في إقامة دولة. لكننا كنا نتحدّث عن سياسة إعلامية أديرت في وقت محدد، وهو مفاوضات كامب دافيد الثانية».
انطلاقاً من كلّ ما سبق، يتحفظ سيفرت على ما يطلب من الإعلاميين ممارسته من توازن،«لأن المطلوب من الصحافي هو التحلي بجرأة إظهار اللاتوازن الموجود في موضوع أو قضية معيّنين»، كاشفاً أن كثيرين من زملائه يشاطرونه الرؤية نفسها في العمل الصحافي.
تبقى المشكلة في إمكان تطبيق هذه الأفكار: فهل يمكن عند نشر كل خبر كتابة إعادة تذكير أو إيضاح لخلفيته؟ «نعم، بالنسبة إليّ هذا هو العمل الصحافي الحقيقي: أن نعطي القارئ مفاتيح الخبر أو التصريح السياسي، شرط أن يكون علمياً ومقنعاً». ولأنه عمل صعب، قد يلجأ الصحافي إلى نشر كتب، هرباً من «استبداد الحاضر»، وهو ما فعله سيفرت، صاحب:
• La Guerre Israélienne de L’information
• Israël- Palestine, Une Passion Française
• Comment on peut être vraiment
Républicain.




Politis وتبعية القرّاء

دنيس سيفرت هو مدير تحرير المجلــــــة الأسبـــوعية Politis. تأسست المجلة عام 1988، على يد الصحافي برنار لانغلوا، وباتت إحدى أبرز وسائل الإعلام الفرنسية التي تحظى باحتـرام كبير، خصوصاً في أوساط المفكرين والمثقفين.
تعني «بوليتيس» باليونانية «المدينة» التي تهتم المجلة بمعالجة مختلف قضاياها: السياسية، الاجتماعية، الصحية... لكنها تفتخر بأنها الأولى التي اهتمّت بالقضايا البيئية في فرنسا.
وعلى رغم أنها «نخبوية»، يحرص سيفرت على التمييز بين أمرين: قد تكون المجلة مختارة من النخبة، إلا أنها لا تتعامل مع مواضيعها بنخبوية. بل هي منخرطة كثيراً في الصراع الاجتماعي، مقدّماً أمثلة عن تعاملها مع الإضراب الأخير لعمال النقل البري في فرنسا، والمقاربة المختلفة التي قدمتها لمطالبهم.
تصنّف «بوليتيس» بأنها مجلة يسارية، بل إلى يسار اليسار، يقول سيفرت. لكنّ هذا لا يخضعها لاتهامات التبعية لطرف أو آخر، «إذا كان لا بدّ من تهمة اللا استقلالية، فنحن نعترف بأننا نتبع قرّاءنا»، والدليل هو الدعم المالي الذي تلقته المجلة من قرّائها العام الماضي، مع مرورها بأزمة مالية. إذ تبرّع ستة آلاف شخص بمبلغ مليون يورو، لكي تستطيع «بوليتيس» الاستمرار، وهي المرة الأولى التي تشهد فيها فرنسا أمراً مماثلاً.
وعلى رغم اعتراف سيفرت بأن المجلة تقدّم مواضيعها لقرّاء يشاطرونها الآراء نفسها أو المقاربات نفسها، يؤكد في المقابل أن تحدي أي مؤسسة إعلامية هو استمرار البحث عن قرّاء جدد...