strong> بيار أبي صعب
• انتهى «ملتقى الخريف»... أهلاً بـ Meeting Points

تنطلق في بيروت هذا المساء المحطّة اللبنانيّة من «نقاط لقاء»، مع عرض راقص للفنان الياباني هيرواكي يوميدا في «مسرح المدينة». وخلال الأيام الماضية احتضنت الصالة نفسها «ملتقى الخريف للرقص» الذي قدّم أعمال عمر راجح وزيّ خولي ونصيرة بلعزّة...

بيروت عاصمة عربيّة (ومتوسّطيّة) للرقص؟ على حافة البركان المزمجر، تشهد المدينة حركة حقيقية، لم تكن تحلم بها في أصفى أيام «السلام» الذي استسلمت لأوهامه عقداً كاملاً. ما سرّ هذه المدينة؟ الكل يتسابق على تدجينها، وإخماد صوتها المتعدّد والمغاير، ولجم جموحها المقاوم، وإغراقها في مستنقع الفتنة الآسن... وفي تلك الأثناء يطلع مصمّم للرقص هو عمر راجح مؤسس فرقة «مقامات» ومديرها، لينظم لقاءً راقصاً ذا تطلعات عربيّة ومتوسّطية، هو «ملتقى الخريف العربي للرقص المعاصر»!
استضاف عمر راجح ورفاقه، خلال الويك إند الماضي في «مسرح المدينة»، عروضاً لبنانيّة وعربيّة، وجمع ضيوفاً مغاربة وأوروبيين، بشراكة مع منظمة «الرقص في حوض المتوسّط» التي عقدت اجتماعها في العاصمة اللبنانيّة على هامش المهرجان... هكذا اكتشفنا عمل راجح الجديد «كونشرتو 13 ــــ الحركة الثانية»، وأعدنا اكتشاف عمل سابق لزيّ خولي بعنوان «سرّي كبير»، وصفقنا طويلاً للراقصة ومصممة الرقص الجزائريّة نصيرة بلعزّة في عرضها «بعد عام». وعقدت ندوات ولقاءات على هامش البرنامج، قدم خلالها الفنانون تجاربهم، وطرحت أسئلة تتعلّق بالرقص المعاصر ومكانه في مجتمعاتنا العربيّة، ضمن حلقات نقديّة بين المشاركين فيها الناقد نزيه خاطر. وغنيّ عن القول أن «الرقص المعاصر» يبدو لكثيرين هنا صعب التفتّح والنموّ، في تربة ثقافيّة متخمة بأشكال الاستعراض الاستهلاكي... أو متوقفة عند التركة الفولكلوريّة في أفضل الأحوال، فيما غصّت قاعة «المدينة» بجمهور شاب ومتنوّع معني أكثر فأكثر بأشكال التعبير المغايرة التي نصنّفها اختزالاً في خانة «المعاصرة».
وبعد أن أسدل الستار على «ملتقى الخريف»، تتواصل الحركة التصاعديّة. فهذا المساء تقرع الطرقات الثلاث إيذاناً برفع الستارة عن تظاهرة فنيّة عالميّة أخرى، هي الدورة الخامسة من «نقاط لقاء» Meeting Points التي يحتل فيها الرقص (المعاصر أيضاً) حصّة الأسد، إلى جانب المسرح والفيديو والتجهيز والموسيقى.
وإذا كان عمر راجح قد قام، في «ملتقى الخريف»، بخطوة إضافيّة على طريق الاحتراف، فإن المأخذ الأساسي الذي يمكن أن يوجّه إليه، بوصفه مديراً للمهرجان، هو ذلك التساهل في اختيار الأعمال المشاركة. إذ اشتمل البرنامج على عروض عاديّة ــــ أو أقلّ! ــــ إلى جانب أعمال على قدر من النضج، وأخرى جديرة بالاهتمام حقاً. ما ترك لدينا الانطباع بأنّها برمجة «اعتباطيّة» أدت فيها المصادفات دوراً مهماً، ما يؤكده راجح، موضحاً أنّه «ترك الفضاء مفتوحاً، بحثاً عن إجابات»، في حين أن البرمجة فنّ قائم بذاته، ومشروع ثقافي وجمالي في غاية الدقة والأهميّة. هكذا لا نفهم مثلاً ما جاء يفعل هنا عرض مالك العنداري «رأساً على عقب» الذي ليس في نهاية المطاف سوى مزحة مشهديّة ــــ سبق أن شاهدناها في بيروت ـــ تمزج دبكة «الهوّارة» أو «البعلبكيّة» مع بعض التعبير الجسماني والقفشات، برفقة برّاد ودرّاجة هوائيّة؟
عزاؤنا في «ملتقى الخريف» الفورة الصحيّة التي غمرت شارع الحمراء أولاً، وتلك اللحظات الممتعة التي عشناها هنا أو هناك في ظلمة الصالة... بدءاً بالدقائق الثمينة التي أهدتنا إيّاها جورجيت جبارة، أم الرقص الحديث في لبنان، إذ طعّمت صرامة الباليه بخفّة الرقص الشرقي (لوحتان قصيرتان بعنوان«الحرمان» و«الظل إلى أين؟»، رقص: ناي معوّض وجان عبّود). ورقصت ماغي طوق على موسيقى أنور براهم لوحة بعنوان «امرأة»، كما اكتشفنا الراقص والكوريغراف اللبناني مازن كيوان الذي رسم في «زائل»، بعض مشاهد الحبّ الثنائيّة المستوحاة من التانغو، وقام بشغل حقيقي على الجسد، قبل أن يفلت منه العرض بنية وإيقاعاً. وإذا بالفنان الذي عمل في السينما والمسرح في فرنسا مصمماً لرقصات التانغو، مع كلود شابرول وإيرينا بروك... ينزلق فجأة إلى خطابيّة زائدة، حين ينهال بالفأس على لوحات كتبت عليها بالفرنسيّة كلمات من نوع «تقاليد» و«قيود». النثريّة نفسها جعلت الخيبة نصيبنا من عرض التونسي نجيب بن خلف الله في «محيّر سيكة». فالفنان الشاب الذي عمل مع كبار المسرح والرقص التونسي من توفيق الجبالي إلى رجاء بن عمّار، يفشل في القبض على إيقاع عرضه، وتحويل التفاصيل النثريّة والسرديّة الزائدة إلى مادة كوريغرافيّة. هذا هو فخّ الرقص المعاصر: كل شيء ممكن هنا، وكل شيء جاهز، ويحدث حتّى ألا يرقص الراقص... شرط أن ينتظم هذا كلّه في عمل متماسك له منطقه، وديناميّته، رؤياه وخطابه الجمالي وإضافاته الجسديّة والمشهديّة.
هذا ما فطنت إليه زيّ خولي في عرضها المستعاد «سرّي كبير» (مع كريستيل فرح)، إذ خلقت عوالمها من عناصر قليلة: ماء في وعاء كبير شفاف، على طاولة يكسوها شرشف أبيض في مقدّمة المسرح إلى اليمين، منصّة من البلكسيغلاس تتوسّط عمق الخشبة، وأخرى إلى اليسار، وشاشة ستعبر عليها رسوم متحرّكة تدور في فلك الأنوثة والغواية والجسد. ذلك أن محور العرض هو الرغبة، والرغبة الممنوعة تحديداً. أي الميل إلى الجنس نفسه، أو المثليّة الجنسيّة. العمل يدور حول معاناة شابة سحاقيّة تعيش حالة تمزّق بين رغباتها من جهة، وتربيتها الدينيّة من الجهة الأخرى، لذا تكثر المسابح والصلبان في العرض... والماء هي «الماء المصلّاة» للتطهّر من الذنوب. «تكتب» زي حركات بسيطة ومتقشفة، وتلعب على الجمود، على تكرار المفردات الحركيّة، والقليل من الخطوات الراقصة، وتترك للجسدين الأنثويين أن يتلامسا ويتعانقا بعفويّة ورقّة، يتلوها الانكسار الذي يفرضه ثقل التقاليد والشعور بالذنب والندم. هذا النزاع الكلاسيكي في الفنّ، يتجسّد هنا في حالة كوريغرافيّة خاطفة، تبقى ـــ رغم بعض الاختراعات الجميلة والموفقة، والكثير من الجرأة ـــ أقل من تكوين رؤية جماليّة متكاملة، وعمل فنّي مكتمل.
أما عمر راجح، فباستطاعتنا القول إنّه بلغ في عرضه «كونشرتو 13 ــــ الحركة الثانية» مرحلة النضج. يفاجئنا الراقص والكوريغراف اللبناني الشاب هذه المرّة بعمل متماسك، تصفّى من فوضى الحركات والمشاهد واللوحات التي شكلت في عرضيه الأخيرين («استمناء ذهني» و«كونشرتو 13 ـــ الحركة الأولى») مادة جميلة، إنما مفكّكة... تلك المادة كان فيها الكثير من الابتكارات المشهديّة، لكنّها بقيت أقل من عمل راقص. اليوم صار عمر يعرف ما يريد تماماً، يتحكّم براقصيه وحركاتهم، بالإيقاع وتواتر المشاهد... صارت لغته الكوريغرافيّة أوضح وأكثر سلاسة وانسياباً، في تصميم المشاهد والخطوات «الراقصة». وهو هنا يستعيد عالمه الكابوسي الهاذي تحت وطأة الحرب وأشباحها (كما في «بيروت صفرا» و«حرب عالبلكون»). لكنّ العناصر مضبوطة أكثر، واللوحات المشهديّة غير الراقصة تأخذ حضوراً دينامياً يعطي للرقص قوّته. والمَشاهد تبنى تدريجاً في عروض عمر راجح، والأكسسوارات تتراكم: تتوزّع الأحذية على شكل بيضاوي (كأنّها لضحايا مجزرة ما. جسر الأمّة في بغداد مثلاً؟). الأحذية يراقصها الراقصون، يتعاملون معها كأجزاء من حياة. وتتراكم الشعارات المختلفة التي يرفعها الممثلون/ الراقصون، على برج مرتفع: على إحداها نقرأ: Wake up (اصحوا). الحرب حاضرة في الشريط الصوتي، تنعكس على الأجساد المذعورة لراقصتين (لوتس إدّه ــــ خوري، جوانا شوينغ) وراقصين (راجح، راوول دوما) وممثل (أحمد غصين) يرتدي قبعة سائق دراجة ويجلس أحياناً على كرسي المقعدين. مستويات السرد متعددة في المكان الواحد، والمشاهد متوازية في الحيز الزمني نفسه... والأهم من ذلك كلّه، الشغل المتقن على الجسد، والإيقاع، والحركة... هذا العرض متماسك وقوي بعناصره المسموعة والمرئيّة، غني بتنويعاته ومشاهده الجماعيّة الراقصة. عمر راجح الذي أدهش الجمهور قبل سنوات في «بيروت صفرا»، يعود اليوم ناضجاً، ليفرض نفسه أبرز رواد الرقص الحديث في لبنان والعالم العربي.
يبقى عمل نصيرة بلعزّة الذي شكل المفاجأة الحقيقية لـ«ملتقى الخريف العربي للرقص المعاصر». هذه الكوريغراف والراقصة الجزائريّة المقيمة في باريس، قدّمت عرضاً قوياً ومدهشاً بعنوان «بعد عام»، يقوم على لغة حميمية مصقولة بعناية. لقطة ثابتة لخشبة مسرح على شاشة في العمق، صوت تصفيق ومغنية جاز. امرأة تتقدّم بعد طول انتظار، في خط مستقيم متقطع بدوائر: كأنها تهرب من شيء ما، ثم تلتفّ على نفسها. تعود وتتقدّم. بعد قليل ستخرج الراقصة بقميصها الكاكي (العسكريّة الملامح) من الشاشة، لتقف على الخشبة الفعليّة. ترسم في الفضاء دوائر متكسرة، يد صوب السماء وأخرى إلى الأرض... تدور وتدور في حلقات متصلة. ثم تظهر راقصة ثانيّة ــــ كأنّها صنوها ــــ (دليلة بلعزّة) ، وتتواصل أغاني البلوز والفادو الحزينة، المتأملة، التي تحكي عن مصائر ضائعة. وفي الجزء الأخير تعود إلى الشاشة، تبطأ الصورة فنلتقط بسهولة أكبر مفرداتها الحركيّة، القفزات الأفقيّة، والدوائر، والخطوط التي يرسمها ذراعان مشرعان على المطلق، ليقولا الهروب المستحيل. في النهاية نجد أنفسنا أمام خشبة فارغة في الفيديو، تتماهى مع خشبة المسرح أمامنا كأنها امتداد لها. إنّها لعبة المرايا وقد بلغت أوجها، أي الفراغ.