strong>رنا حايك
• في ضيافة تانت فاديا، المكتبجيّة وحارسة المنارة

هنا يُعدّ الزبون صديقاً، والبائع مرشداً ودليلاً. ومن الزوايا تنبعث روائح عصر ذهبي سحيق. بعد أسابيع، أو أشهر، ستقفل هذه المكتبة البيروتيّة أبوابها للمرّة الأخيرة... تاركةً لعجلة التطوّر أن تعبر على أطلال الزمن السعيد

تبدّل بيروت ملابسها باستمرار. تتغيّر معالمها وتتجدّد كلّ يوم. في هذه المدينة المسكونة بهاجس الحداثة والتحديث، تموت ذاكرة وتنمو أخرى، تنقرض مهنٌ وتُستحدث أخرى، وفق عملية تحكمها قواعد السوق ومتطلّبات الاستهلاك. وفي شارع «بلس» مكتبة على وشك الاستسلام لـ«دولاب الزمن»، مثلما تسمّيه مديرتها فاديا جحا. إنّه الدولاب عينه الذي داس مقهى «المودكا» والـ«ويمبي»، سيمرّ قريباً فوق «مكتبة رأس بيروت» التي كانت شاهداً على معارك العصر الذهبي في بيروت الخمسينيات. الجدران التي ما زالت ترجّع صدى هاتيك المعارك والنقاشات المحتدمة، بين طلاب الجامعة الأميركية ومثقّفي رأس بيروت والحمرا ستصبح خرساء في المستقبل القريب... وأطياف أيام زمان ستهجر المكتبة مثلما غادرت قبلاً مطعم «فيصل» الذي أُقفل في الثمانينيات، ليسكن كتب التاريخ، وألبومات النوستالجيا التي تنضح من عيني فاديا جحا آخر «مكتبجية» في بيروت... فالمهنة أيضاً تتحول تحت ضغط التحديث تماماً مثل فضاء المدينة.
صحيح أنّ «بلس» لا يتجاوز طوله كيلومتراً واحداً، لكنّ الشارع كان أحد أهمّ الأوردة الثقافية للمدينة، وحضناً حقيقياً لتنوّع طائفي وغليان ثقافي وفكري اكتسب دوره بعد بناء الجامعة الأميركية عام 1866. قبل ذلك، كانت رأس بيروت منطقة شبه ريفية تسرح فيها المواشي ويقطنها مزارعون، مثلما تظهرها صورٌ التقطها فرانكلين مور أحد أساتذة الجامعة بين عامي 1892 و1902. هكذا فاض الهمّ الفكري والثقافي والمعرفي، فتجاوز أسوار الجامعة، وخلع على شارع بلس طابع المدينة الجامعية. دبّت فيه حيوية لم تفارقه حتى اليوم، فأصبح سوقاً للكتاب، ومكاناً يوفّر للطلاب جميع مستلزماتهم اليومية من مأكل ومشرب ومنامة. في هذا المناخ، أبصرت «مكتبة رأس بيروت» النور عام 1949، على يد أنطوان كرم، أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية، ثم اشتراها، بعد أربع سنوات، عبد الأحد بركات أو «عمو عبدو» مثلما يعرفه روّاد المكتبة، بالشراكة مع شفيق جحا، المربّي والمؤلف الذي أغنى المكتبة التربويّة في مجال التربية المدنية. ثم انسحب عمو بركات تحت ضغط الحرب الأهلية عام 1980، بعد أن وضع الدعائم الأساسية التي جعلت من المكتبة «هايد بارك» الثقافة البيروتية منذ الخمسينيات. ونجح في احتواء طلاّب الجامعة وأساتذتها، وتأمين المناخ المريح لاحتضان نقاشاتهم... هذه هي التركة التي وجدت فاديا جحا نفسها ذات يوم مؤتمنة عليها، فثمّرتها وطوّرتها ووضعت فيها حياتها... لتصبح اليوم أشهر «مكتبجية» في بيروت. فاديا هي ابنة شفيق جحا، بدأت موظفة في مجال المشتريات عام 1973، وما لبثت أن أصبحت سيّدة المكان.
احتضنت «مكتبة رأس بيروت» أجيالاً متلاحقة من المثقّفين، طلاباً وأساتذة وصحافيين: من أدونيس وخليل حاوي وميشال جحا وفؤاد رفقة وشكيب خوري ويوسف الخال، إلى الياس خوري وسمير قصير ونجوى بركات وحنان الشيخ. هكذا تحوّلت إلى صالون أدبي احتضن نقاشات الطلاب. فوق حلبتها تواجهت المواقف والآراء المتناقضة حول إصدار جديد أو قضية مستجدة، أو حتى شأن من شؤون الجامعة. باختصار، مثّلت المكتبة، مثل شارعها، ذاكرةً ومرآة لحقبة تاريخية ضجّت بالمعارك الفكرية والثقافية على امتداد رقعة العالم العربي. لا بدّ من أن نذكر هنا أن «عمو عبدو» لم يسحب كتاب صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني» عن رف المكتبة حين طُرد المؤلف من الجامعة حيث كان يدرّس عام 1968. بل إنّ المكتبة عاشت حينذاك حمّى تلك المعركة الفكريّة التي امتدّت من أروقة الجامعة إلى الحياة الثقافيّة العامة في العالم العربي.
هذه المكانة التي احتلّتها المكتبة في حياة روادها، لم تكن لتتحقّق لو كان القيمون عليها مجرد تجار أو موظّفين. وفاديا «حارسة المنارة» كما تطلق عليها الكاتبة رشا الأمير التي أصيبت هي الأخرى بـ«لوثة» الثقافة، كان لها الدور الأكبر في الحفاظ على نكهة المكتبة وروحها وشخصيتها. في حديثها عن العلاقة مع الزبون الذي تسمّيه «الصديق»، تنتقد فاديا الأساليب الجديدة التي يعتمدها «مكتبجيو» آخر زمن. إذ اختصروا علاقتهم بالزبون بكبسة زر على الكمبيوتر للبحث عن العنوان المطلوب في المستودع. أما هي ، فما زالت تقاوم التكنولوجيا... تعمل وحدها في المكتبة. تصنّف الكتب، ترتّبها على الرفوف، تمسح عنها الغبار كل صباح، وتدوّن ما نقص منها. وهي تبني مع «الأصدقاء» علاقات فكرية حميمة، فتدرك تدريجاً أذواقهم، وتبلغهم بنفسها عن إصدار جديد قد يهمهم. والأهم من كل ذلك: فاديا لا تنسى القديم. فالمكتبجي الجيد ـــــ على حد قولها ـــــ هو مَن يعرف الكتاب لو سُئل عنه بعد 20 سنة من صدوره. وهو أيضاً الذي يضطلع بدور إيجابي في توجيه القارئ، وخصوصاً في ظل شيوع «الكتاب الموضة» الذي يعتمد في الكثير من الأحيان على التسويق.
ما زالت فاديا تذكر مشاويرها إلى وسط البلد، لتلقّف جديد دور النشر التي كانت تتمركز هناك. كان أصحاب هذه الدور مثقفين لا تجاراً. ورغم أنّ الحرب حرمتها من تلك المشاوير، فإنّها لم تفكّر يوماً في إقفال المكتبة. فقد كانت تقتنص ساعات الهدنة لتأتي صباحاً وتفتح المكتبة على الأقل لتزويد الجيران بالجرائد. الجميع يعرفها وطلاب الجامعة ينادونها بـ «تانت» فاديا. تعرف مواضيع حصصهم في الجامعة التي حصلت منها على دبلوم تجارة في الثمانينيات. وعدا العناوين التي حفظتها عن ظهر قلب، تحفظ سيدة المكان أيضاً وجوه رواد المكتبة وأذواقهم. تستفزّ المارة بالكتب المعروضة في الواجهة الزجاجية التي تبدّل عناوينها كل يوم. لكنّ فادية غاضبة هذه الأيام من المثقفين العرب الذين انكفأوا عن أداء دورهم. غضبها يتعاظم حين تتذكّر سيد القمني واعتذاره عن كتاباته في مجال النقد الديني، بعدما أدّت إلى هدر دمه. وكي لا تنسى، تفرد له مساحةً على لوح علّقت عليه قصاصات ومقتطفات من مقالات صحافية وعروض كتب.
«مكتبة رأس بيروت» ستختفي قريباً عن خريطة هذا الحيّ العريق، ليحلّ مكانها أحد تلك المباني العصريّة الضخمة. الطلاب سيشتاقون إلى «تانت» فاديا، والمارة سيفتقدون ألوان الكتب في الواجهة الزجاجية ذات الإطار الأحمر. لعلّهم سينسون بسرعة، أو يبحثون عن عزائهم في المطعم المجاور للوجبات السريعة... لكن هل سيشبعون حقّاً في مدينة بلا مكتبات؟...