strong>نادر فوز
ندوة أخرى في بيروت عن الرقابة. في «معهد غوته»، طوال يومين، اجتمع باحثون وإداريون ومبدعون من العراق وسوريا والمغرب وتونس ومصر وفلسطين ولبنان... ودار نقاش حاد، يشوبه بعض التعميم، انطلاقاً من إشكالية أزليّة: الفنّ في ميزان الحريّة

ندوة أخرى في بيروت عن الرقابة. في «معهد غوته»، طوال يومين، اجتمع باحثون وإداريون ومبدعون من العراق وسوريا والمغرب وتونس ومصر وفلسطين ولبنان... ودار نقاش حاد، يشوبه بعض التعميم، انطلاقاً من إشكالية أزليّة: الفنّ في ميزان الحريّة
أقيمت في بيروت ندوة ثانية عن الرقابة وحريّة التعبير، بمبادرة من «جمعيّة أمم» و«معهد غوته» الألماني، بعنوان «الفن في ميزان الحرية». ناقشت الندوة التي عقدت يومي الأحد والاثنين، موضوع الرقابة، بمشاركة مجموعة من الباحثين والمبدعين والناشطين الثقافيين، إضافة إلى أهل الإعلام طبعاً، وممثلي أجهزة الرقابة السياسية والدينيّة.
شارك في الندوة غوته أكثر من 23 باحثاً ومسؤولاً وصحافياً وفناناً، توزعوا على ستّة محاور رئيسية على مدى يومين. وجاءت مشاركة بعض هؤلاء المحاضرين عبر قراءة نصوص مكتوبة، إلا أنّ عدداً منهم استطاع تخطّي الاطار التقليدي، في حضور الرائد إلياس الأسمر، نائب مدير دائرة الرقابة في الأمن العام اللبناني... وتبيّن من خلال المؤتمر أنّ الرقابة في لبنان ومعظم الدول العربيّة، هي ثمرة «تحالف» بين السلطة الدينية والسلطة السياسية للدفاع عن الأخلاق والاستقرار الأهلي بلغة بعضهم، أو للمحافظة على العلاقات السلطويّة السائدة و«النزعة الرجعيّة» في المجتمع، بلغة البعض الآخر، ومنع كل محاولة تقدم في اتجاه الديموقراطية والتغيير.
ذكر بعض المشاركين أن كل طائفة «تمون» من جهتها على سلطة الرقابة، وبوسعها أن تعوق نشر أي تعبير فنّي يمكن أن يخالف عقائدها، أو يختلف مع رؤيتها. هكذا تمتد السلطة الدينية إلى المجتمع، فتفرض على الفنانين رقابة اجتماعية، أو ما يعرف باسم رقابة المجتمع الأهلي التي يمكن أن تكون أخطر أشكال الرقابة، كما ذكّرت الباحثة والكاتبة المصريّة ساميا محرز، في معرض تناولها لحملة «الاضطهاد» والتنكيل التي تعرّضت لها في مصر، بسبب تدريسها رواية محمد شكري «الخبز الحافي» في الجامعة الأميركيّة. ذلك أنّ آلة القمع بدأت بمبادرة من اثنين من أولياء الطلاب اتهماها بـ«التحرّش الجنسي» بطلابها!
ومن جهة أخرى، لفت بعض الفنانين والصحافيين إلى خطورة سيطرة شركات الإنتاج والإعلان، والمؤسسات الإعلاميّة، التي تفرض اللون الواحد والنمط الموحّد، وتهمّش أو تحاصر كل الإبداعات المغايرة أو التقدميّة والطليعيّة التي تسلّط نظرة نقديّة إلى العلاقات القائمة! وفي هذه السيطرة شكل آخر مهم من أشكال الرقابة لفت إليه الفنان اللبناني مو (محمد) حمزة، والناشطة المصريّة بسمة الحسيني. وفي ظلّ هذا الواقع، تناول بعض المشاركين الرقابة الذاتية التي يفرضها على نفسه الفنان أو الإعلامي في العالم العربي. ورأى الفنان الفلسطيني شريف عبد النور أن الرقابة ليست إلا عائقاً أمام إظهار واقع المجتمع، إنها خوف من «صورتنا المعكوسة في المرآة». وللإفلات من قيودها، يجد المبدع العربي نفسه أمام احتمالات عدة: الاحتفاظ بما يفكّر به لنفسه، أو اللجوء إلى مجتمعات أخرى تتيح له حريّة الإبداع والتفكير والتعبير.
وكثر الجدال بشأن مفهوم «خدش الحياء العام» الذي ينصّ عليه القانون اللبناني، ومعظم قوانين الرقابة الأخرى. وقد توقف عنده خلال المؤتمر ممثلو الطوائف اللبنانيّة: الشيخ محمد النُقري (المدير العام لدار الفتوى)، والصحافي محمد رزق (ممثل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى)، والأب يوسف مونّس (الأمين العام للّجنة الأسقفيّة للإعلام)، وهذا الأخير بدا مزايداً في الانفتاح والليبراليّة... من يحدّد ما هو الحياء؟ سأل أحد المناقشين. فيما ذكّر الزميل بيار أبي صعب بأنّ معيار الممنوعات والمحظورات نسبي، في كل مجتمع وعصر ومرحلة، وعلى الفنّان الفرد أن يقف في مواجهة الجماعة لمحاولة «توسيع حدود الحريّة».
وتعالت أصوات نقديّة في مواجهة ممثل «الرقابة» اللبنانيّة الرائد إلياس الأسمر الذي لعب ورقة الاعتدال والانفتاح بدوره، ثم ممثل «الرقابة» السوريّة الصحافي عمّار أحمد حامد. أكدت تلك الأصوات أنّ كل مواطن فرد راشد ومسؤول، لا يحق لأي سلطة أن تمارس عليه الوصاية الفكريّة والأخلاقيّة، من خلال موظفي دائرة رسمية. فوحده القضاء من شأنه أن يعيد الحق إلى نصابه إذا لزم الأمر. أما الكاتب والناشر اللبناني لقمان سليم، ففاجأ الجميع بأنّه لا يطالب بإلغاء الرقابة، بل بأن يكون للمجتمع المدني والعلمانيين حصّة منها، أسوة بسائر الطوائف. وتطرّق البحث إلى مسألة المحظور أو الـ Taboo الذي عرّفته الأكاديمية اللبنانية عفّت أبو شقرا بأنه ليس «محرّماً أو من المحرّمات»، بل هو معطىً ثقافي قد يقبل به المجتمع يوماً، فيما المحرّمات ثابتة عبر العصور.
وطرحت أسئلة عن الأعمال الممنوعة في لبنان، تحت بند مقاطعة إسرائيل، وعن الأسس السياسية لتلك المقاطعة.
وتناولت إحدى الجلسات مساحات التعبير الجديدة، من الإنترنت إلى الفضائيات... ولعل هذه الجلسة كانت الأكثر بريقاً بسبب وجود بعض نجوم الإعلام المرئي: غسان بن جدّو (الجزيرة) ونضال الأحمديّة (الجرس) التي تعرضت لانتقادات واسعة بسبب نزعتها الفضائحيّة التي تسيء إلى حريّة التعبير بدلاً من أن تخدمها. وتساءل بعض المشاركين: هل تقدّم الفضائيات حقاً مساحات جديدة لحريّة التعبير؟ وإذا قدّمتها، هل يكون ذلك الخيار بريئاً من الأغراض السياسيّة؟ أما الإنترنت (تناوله مازن كرباج)، فهو أيضاً مراقب ومقيّد في عدد كبير من الدول. ثم ما مدى انتشارها في المجتمعات العربية؟
وركّز الفنانون الحاضرون، بدءاً بحنان الحاج علي، على أن تطوير أداء الرقابة في لبنان، يستوجب انتزاع حق تقرير مصير الأعمال الفنية من دائرة الأمن العام، وتحويلها إلى وزارة الثقافة. فسوء التفاهم حاصل بين الفنان والعسكري في كل الأحوال، حتى لو كانت العناصر المسؤولة في «الأمن العام» مجازة وتتكلم لغات عديدة (بحسب الرائد إلياس الأسمر). ويبقى اللجوء إلى تصنيف الأعمال الفنية حسب فئات عمرية، من الحلول الراقية التي تحمي الصغار من دون أن تقيّد حريّة المبدع والمتلقّي على السواء... وطالب مشاركون بتوضيح مسألة المحظورات المفروضة على الأعمال الفنيّة، لكون القانون الحالي وآليات تطبيقه تفتح الباب للمناورة والتلاعب.
وكان مسك الختام محاضرة ألقاها الكاتب والمترجم والمستعرب إيف غونزاليس كيخانو، أخذت النقاش، ضمن إطار جدلي، إلى عمليّة فحص ضمير يقوم بها المثقفون والمبدعون قبل سواهم. ثم انتهى المؤتمر، وعاد كل من حيث أتى. فعاد الكاهن إلى رعيّته والشيخ إلى حوزته والطالب إلى جامعته. الأمور لا تزال ملتبسة، ولا تزال النقاشات ووجهات النظر المتعارضة محصورة بين جدران معهد غوته.