حسين بن حمزة
يستطيع قارئ مجموعة «قبل أن نكره باولو كويلهو» (دار شرقيات ــــ القاهرة) لجيهان عمر أن يتصرف بصددها كعمل شعري منفرد، فيتمتع ببعض قصائدها، وتكون له ملاحظات على بعضها الآخر، لكنه لن يستطيع أن يطرد من ذهنه فكرة أن يرى المجموعة ضمن المشهد الشامل لما يُكتب من شعر في مصر، حيث ممارسات أغلب التجارب الشابة باتت محصورة في اكتشاف ما هو شعري في النثر، وفي ما اتُفق على تسميته «نثر الحياة اليومية» أو «شعرية التفاصيل».
القصد أنّ اكتشاف هؤلاء لهذا «المنجم» الشعري (وهو منجم ذو احتياطي شعري ضخم)، كان منعطفاً مهماً ومميزاً في جديد الشعر المصري، وتحديداً قصيدة النثر، لكن لا بدّ من الإقرار بأن ثمة خشية اليوم من تحوّل هذا المنجم خياراً نصياً وحيداً. فمعظم شعراء هذا النوع واصلوا ترسيخ الجملة نفسها التي بدأوا بها، بينما يستمر استقبال منتسبين جدد إلى الحقل نفسه، إلى حد أنّ المراقب البعيد وغير المتورط في التفاصيل الدقيقة لما يحدث، قد يظن أن الشعراء في مصر منكبّون على إنجاز قصيدة واحدة، وأن الفروقات (الطفيفة على أي حال) تتمثل في التقنيات والإمكانات الفردية.
لعلنا نظلم مجموعة جيهان عمر حين نُخضعها لهذه القراءة المزدوجة، لكنها مناسبة لإبداء قلق نابع من صداقة وإعجاب بالأصوات المصرية الجديدة التي تمثل اليوم أغزر الأقاليم الشعرية العربية وأكثرها حيوية.
تستثمر جيهان عمر النثر اليومي ساعية إلى استخراج طاقاته القصوى والعثور على ما يقوّي حضور التفاصيل في قصيدتها وما يثير دهشة القارئ أيضاً. القصائد مكتوبة وفق حساسية تبحث عن اللقطة الشعرية بين أكوام النثر اليومي، إذ يتركّز الجزء الأهم من عمل الشاعرة على استدراج ما يلزم، واستبعاد ما هو زائد عن الحاجة. قد يبدو لبعض القرّاء أنّ هذه الكتابة سهلة، وخصوصاً أن كل قصائد المجموعة منجزة وفق قالب موحد بات ماركة مسجلة باسم شعر الحياة اليومية: سطور سردية تتوالى توالياً عادياً، شعريتها مؤجلة إلى نهاية القصيدة، لكن السهولة التي على السطح تخفي جهداً مضنياً تحتها. ففي غياب مخيلة واسعة ومقدرة على استخدام حِيَلٍ متنوعة، ستكون كتابة قصيدة بارعة بمكوّنات نثر مفرط في نثريته، عملية بالغة الصعوبة.
نصوص جيهان عمر تمتثل لشروط هذه اللعبة الخطرة. وكل شيء يبدو عادياً بانتظار الخاتمة أو «القفلة». لهذا، ثمة ضرورة لإيراد قصيدة كاملة حتى يتذوق القارئ شعرية السرد فيها، كما هي الحال في قصيدة «جنس جماعي»: «يغمض عينيه/ يتخيلها امرأة أجمل/ تغمض عينيها/ تتخيله رجلاً يحبها/ كان الأربعة في الفراش/ هي وهو/ والمرأة الجميلة/ والرجل الذي يحبها/ يعقدون أطراف الملاءة الملونة/ كل طرف تمسكه يد/ ربما يحتاجونها كمظلة/ لحظة الهبوط من السماء/ ولأن جرائم الخيال الكثيرة/ القديمة والمخطط لها/ تستطيع الابتعاد والتحليق/ فلم يشيرا يوماً إلى الأمر».