strong>محمّد رُضا
•أنطوني هوبكنز في جلد المعلّم عند إنجاز «سايكو»
«سايكو» في ذاكرة هواة السينما، عنوان تجربة تحتل من دون شك موقع الصدارة، جيلاً بعد آخر. الفيلم المتقشف الذي هو أحد أشهر علامات العالم الـ«هيتشكوكي»، سيكون مناسبة انبعاث معلّم الرعب والتشويق على الشاشة بملامح هوبكنز، في فيلم لرايان مورفي، يستعيد تلك المحطّة الأساسيّة في تاريخ الفنّ السابع
أعلن أنطوني هوبكنز أنّه الممثل الأصلح لتأدية شخصية ألفرد هيتشكوك، السينمائي الأسطوري الذي لا يزال واحداً من أشهر مخرجي العالم بعد 17 عاماً على رحيله. إذا سارت الأمور كما يجب من الناحية الإنتاجية، سيؤدي أنطوني دور المخرج الشهير في عمل بعنوان «ألفرد هيتشكوك يقدّم سايكو» من إخراج رايان مورفي، وستشاركه البطولة الممثلة هيلين ميرين. وكما يشي العنوان، يتناول العمل العقبات التي واجهها هيتشكوك خلال إنجاز واحد من أهم أعماله وأشهرها، إنه ذلك الفيلم التشويقي الذي خطف الأنفاس في عام 1960. وقتذاك، كان هيتشكوك فرغ لتوّه من فيلم ناجح آخر هو «شمال شمال غرب»، عندما التفت إلى القصّة التي وضعها روبرت بلوك عن رجل أصيب بفصام، وارتكب جرائمه معتقداً أنّ والدته الميتة منذ زمن، هي القاتلة.
من غير هيتشكوك كان بوسعه إنجاز تلك الرواية المستندة إلى قصّة حقيقية، لتخرج على النحو الذي نعرفه؟ لقد نزع عنها كل ما هو أدبي، وألبسَها حلّة متقشفة، إذ صوّر فيلمه، كما هو معروف، بالأبيض والأسود في مرحلة كانت سينما الألوان قد غزت شاشات العالم. هكذا رفض أن يضع لـ«سايكو» موازنة كبيرة، أسوة بشريطه السابق... وتعمّد أن يكتسي الفيلم مظهر العمل الرخيص، بل أكثر من ذلك، وكما أخبر المخرج الفرنسي فرنسوا تروفو في حوار شهير بات من مراجع الفن السابع، جلب الممثلة الشهيرة جانيت لي للبطولة وقَتَلها في بداية الفيلم بغية تحقيق صدمة غير معهودة في هذا السياق، إذ كان يُستعان عادةً بالنجوم لتأدية أدوار البطولة، ونادراً ما كانوا يموتون في الفيلمإلا أنّ هيتشكوك جلب تلك النجمة وقتلها بعد 22 دقيقة فقط من بدء الفيلم، فكان ذلك من العناصر التي منحت الفيلم فرادته، ووقعه الخاص على المشاهد. هكذا برهن هيتشكوك أنّه يُمكن مواصلة الفيلم من دون نجم معروف، لكن ما أكدّه فوق كل ذلك أن أحداً لا يجاريه في مهارة استخدام العناصر المتاحة فنياً، لتقديم فيلم رعب قائم بالدرجة الأولى على كيفيّة التلقّي الذهني، وكيفيّة تلقّي المشاهد كل صورة من شأنها أن تخلق حالة الرعب والتشويق.
الصورة التي تبقى في الذاكرة أكثر من سواها في الفيلم، هي تلك التي نرى فيها جانيت لي تدخل الحمّام لتقف تحت الرذّاذ. تسدل الستارة وتبدأ الاستحمام. فجأة نرى شبحاً يتقدّم منها. تنتبه إليه وهو يرفع السكّين. تصرخ. تُزاح الستارة. تنهال اليد عليها مراراً وتكراراً. لقطة لأرض المكان والدماء تختلط بالماء، وتتوجّه الى البالوعة. تتمزّق الستارة. ينتهي عمل القاتل فيخرج.
أسلوب التوليف (المونتاج)، والكتابة الموسيقية الصارخة التي واكبت المشهد، اعتبرا من العلامات المميّزة للفيلم، بل لسينما هيتشكوك من أساسها. ولا شكّ في أنّ فيلم رايان مورفي مع أنطوني هوبكنز سيتوقّف عنده. فقد أثير جدل واسع حول سؤال بسيط: إلى من يعود الفضل في فرادة هذا المشهد؟ أهو إخراج هيتشكوك؟ أم فنّ المونتاج وفن الكتابة الموسيقية؟ علماً أن المونتاج لا يكفي لتحديد ملامح الفيلم ما دامت جميع مستويات المعالجة السينمائيّة تخضع لرؤية المخرج من الورق الى... الشاشة التي تضعه في مواجهة الجمهور.
لكن بصرف النظر عن النقاشات المتواصلة في سرّ نجاح «سايكو»، فإن الفيلم كان مفترق طرق حاسماً في سينما الرعب كما كانت سائدة آنذاك، وفي مسيرة هيتشكوك نفسه ذلك الوقت، إذ تكفي طريقة تقديم الشخصية التي أدّتها جانيت لي. حتى ذلك الحين، كانت الممثلة، التي توفّيت عام 2004 عن ٧٧ سنة، كوّنت اسماً تجارياً لا بأس به وأصبحت نجمة مشهورة. لذلك حين أمّ الجمهور الصالات آنذاك لمشاهدة فيلم «سايكو»، فوجئ بها منذ المشهد الأول تؤدي دوراً خارج منظومة القيم التقليدية، الأخلاقية، كما كانت متعارفاً عليها: إنّها امرأة تعاشر رجلاً متزوّجاً. تمرّ الكاميرا في اللقطة الأولى فوق المدينة، وهيتشكوك يقول بذلك إنها قصّة عادية في مكان ما في سان فرانسيسكو والكاميرا قد تنزل إلى أي بيت، لتصوّر قصة يمكن أن تحدث لأي مُشاهد.
تتوجّه الكاميرا الى تلك النافذة، وتدخلها متأخرة لنرى الثنائي يلملم نفسه بعد مشهد حب فاتنا. ميول هيتشكوك إلى التلصّص معروفة، وهي هنا حجر الأساس في افتتاح هذا الفيلم. بعد ذلك، تتوجّه ماريون ــــــ اسمها في الفيلم ــــــ الى مقرّ عملها في مكتب رجل أعمال، حيث تتعرّض لتحرّشات زبائنه، لكنّها بدلاً من تلبية دعوات هؤلاء، قررت أمراً مختلفاً مع عشيقها: أن تدبّر المال اللازم ليغادرا المدينة. ما إن يطلب منها رئيسها التوجّه الى المصرف بحقيبة ملأى بالنقود، حتى تبادر إلى الفرار بها إلى مكان بعيد.
هذا كلّه كان ـــــ قبل أي مشهد رعب ـــــ خارج المنظومة الأخلاقية والتقليدية... لكن الفيلم، من اللقطة الأولى، يرسم ملامح الآلة التشويقية التي يركّبها المعلّم، كما يبني العامل جداره إذ يروح يرصف حجراً فوق حجر. لمسات هيتشكوك تظهر جليّة على كل تفصيل ولقطة ومشهد... هكذا يحكم قبضته على تلك اللعبة الجهنّميّة.
يرتفع التشويق بالتدريج، ونرى ماريون في ورطة مع الشرطة التي لا يُظهر هيتشكوك إن كانت تلاحقها حقاً أم لا. تنام ماريون على الطريق الرئيسية خارج المدينة، وتصحو على شرطي ذي نظارات يطرق نافذة السيارة ليسألها إذا كانت بخير. هناك شيء غريب فيها شعر به الشرطي، بينما سيتساءل المشاهد إذا كان سيلقي القبض عليها لمجرد أنّه لاحظ غرابتها. ينتهي الفصل بوصول ماريون إلى فندق جانبي انقطع عنه الزوّار منذ افتتاح الطريق السريعة. عند هذا الحد، أنجز الفيلم فصلاً، وبدأ بآخر من دون أن يكون الإنجاز والبداية منفصلين بالفعل. كل شيء ينساب تحت أنامل ذلك المخرج القصير والبدين الذي كان يردّد: «لا شيء يجب أن يقف بين المشاهد والفيلم، لا الكاميرا ولا الممثل ولا المخرج نفسه».
وكل تلك اللعبة المركّبة هي محور الفيلم الجديد الذي سيدخلنا إلى كواليس «المعلّم» السريّة، ويستعيد لحظات أسطوريّة في تاريخ السينما، من قلب المختبر الهيتشكوكي. كأي مخرج كبير آخر، لدى صاحب «الطيور» و«الحبل» مفاتيح خاصّة يستخدمها لتجاوز الإشكالات، وتوريط المشاهد من اللقطة الأولى. التلصّص أحد تلك المفاتيح. مثلاً، نرى جيمس ستيوارت يبصبص على جيرانه في فيلم آخر هو «النافذة الخلفية» (1954)، لكن جاراً محدّداً سيسترعي الانتباه: الجار الذي شوهد يقتل امرأة.
في مغامرته الجديدة «ألفرد هيتشكوك يقدّم سايكو»، سيواجه رايان مورفي المنطق الداخلي لسينما المعلم البريطاني الكبير. فالناس هنا مدفوعون دوماً بفضولهم، سواء كانوا شخصيات في الفيلم أو مجرّد مشاهدين. هذا هو السبب الذي تحتل فيه السلالم ركناً أساسياً في سينما هيتشكوك. السلّم في «سايكو» يؤدي ـــــ نزولاً الى القبو ـــــ الى اكتشاف السرّ. أما صعوداً فإلى الموت. تكتشف فيرا مايلز (ليلا كراين) مثلاً، لدى نزولها السلالم، أنّ نورمان بايتس (أنطوني بركينز) يخفي الهيكل العظمي لوالدته في القبو. وحين يصعد التحرّي ملتون (مارتن بالسام) السلالم المؤدية الى الطابق العلوي من البيت الموحش، يخرج عليه المجرم في ثوب أمّه ويطعنه حتى الموت.
لكننا لا نعرف بعد إذا كان السيناريو الذي وضعه المخرج رايان مورفي بنفسه، سيتطرّق إلى كلّ تلك الجوانب، أم سيكتفي بالجانب الروائي، راصداً هيتشكوك خلال إنجاز «سايكو». المشروع في بدايته، ولا بدّ لكلّ من أنطوني هوبكنز ورايان مورفي من أن يفرغا من مشاريعهما المختلفة، لكن الجمهور بات ينتظر بشوق وفضول تلك الخطوة الخارجة على المألوف في مسار السينما الهوليووديّة.