فاروق سلوم
انطلقت أخيراً على الشاشات الأوروبية والأميركية، عروض فيلم إشكالي بعنوان «وا قدساه»، اقتبسه إيلي شوراكي عن رواية بالعنوان نفسه، تحمل توقيع لاري كولنز ودومنيك لابيير. وكان المخرج والسيناريست الفرنسي المذكور، قد اشتغل مع الممثل باتريك برويل على تحويل رواية O Jerusalem إلى سيناريو عن صداقة بين عربي وإسرائيلي في عام 1947. ويمكن التساؤل عن توقيت إحياء تلك الرواية الصادرة في السبعينيات، التي عُرضت على المسرح في نيويورك، قبل أربع سنوات. يومذاك، تصدّرت الملصق عبارة بالعربية تقول: «نحن في قارب واحد». واليوم يأتي الفيلم الفرنسي (٢٠٠٦) ليستعيد تلك الحقبة الحاسمة من تاريخ العالم العربي والمنطقة، كأنّه يؤسس لحوار محتمل وشراكة مقترحة!
يحكي «وا قدساه» صداقة شابين في نيويورك، يتقاسمان الأفكار والاهتمامات في مناخات «فضاوة البال» التي تلت نهاية الحرب... الفلسطيني سعيد شاهين واليهودي النيويوركي بوبي غولدمان، يستقلان السفينة إلى «الأرض المقدسة» بعدما أصدرت منظمة الأمم المتحدة الوليدة، قرار تقسيم فلسطين. وهناك ستفترق دروبهما وسط أنهار الدماءمن الجانب الفلسطيني يصوّر العمل محاولات الدفاع عن القدس، من خلال شخصيات بسيطة مثل نمرة طنوس عاملة المقسم التي تحذّر الفلسطينيين من تنصّت استخبارات الهاغانا على مكالماتهم، وإبراهيم أبو دية الراعي من منطقة الخليل الذي يقود جماعته وهو جريح نحو صراع جريء، لكن غير متكافئ، وعبد القادر الحسيني ابن العائلة البورجوازية المقدسية الذي يخاطب الناس في شوارع القدس ويجمع شملهم، ثم يُقتل في معركة القسطل. كذلك القائد العسكري عبد الله التل الذي ينجح في السيطرة على الجزء الغربي من القدس، رغم موقف الملك عبد الله منه، إلى أن ينتهي به المطاف لاجئاً في مصر! وثمة إشارات إلى قائد عسكري عراقي، من قوات عربية اجتمعت قرب حصن جنين، لتأكيد خيار المواجهة العسكرية مع عصابات الهاغانا المدعومة من البريطانيين.
وتقابل هؤلاء في الطرف الإسرائيلي شخصيات مثل تيدي، صياد السمك في بحيرة طبريا الذي يقاتل حتى يغدو كما تقول الأحداث التاريخية الحقيقية عمدةً للقدس أواخر الستينيات... وشخصية الفتاة البولونية التي عبرت الاتحاد السوفياتي لتشارك في تأسيس الدولة العبرية، حيث تقاتل مع الهاغانا وتُقتل في معركة صعبة لفك الحصار عن مئة ألف يهودي من سكان القدس. وتقوم ماريا باباس بتمثيل هذه الشخصية بطريقة خاصة. كذلك تظهر غولدا مائير في مشهد من الفيلم ومعها مبلغ خمسين مليون دولار أعطتها إياها أميركا، وبن غوريون يردّد مقولته الشهيرة: «حين سيُكتب التاريخ، سوف يسجّل كلمات العرفان لامرأة شجاعة أسهمت في تأسيس الدولة العبرية اسمها غولدا».
في الفيلم الذي صُوّر في شوارع يونانية شبيهة بالقدس، تحتشد حوارت ومواقف بين الشخصيات التي أدارت أحداث تلك اللحظة التاريخية خلال القتال بين الهاغانا والفلسطينيين. وتشير طبعة الفيلم الذي يعرض في أميركا بعنوان: «ما وراء الصداقة»، إلى وجود رغبة في تسويق فكرة التعايش في المدينة القديمة، التي يصفها الفيلم بأنّها تشبه سفر متّى، «أيتها المدينة التي تقتل الأنبياء المرسلين وترجمهم بالحجارة».
وفيلم إيلي شوراكي (إنتاج فرنسي ـــــ إسرائيلي ـــــ يوناني) يأتي في مرحلة حاسمة من تاريخ المنطقة، والمحاولات السافرة لفرض مشروع الإدارة الأميركية كما وضعه المحافظون الجدد وغلاة الصهيونيّة. من هنا خطورة النزعة التبسيطية للصراع، كما يستبطنها فيلم شوراكي، ووشاح الرومانسيّة والحنين الذي يوحي للمشاهد الغربي «الطيّب»، بأنّها «خناقة» بسيطة، وأن شعب إسرائيل المضطهد، العادل والطيب أيضاً، سيبذل كل ما في وسعه من تنازلات «من أجل السلام»!
لا يفوت المخرج أن يروّج لنفسه بصفته يتحدّر من بيئة مركّبة، تجمع الثقافة العربية الإسلامية واليهودية والمسيحية. فهو ابن الكاتب أندريه شوراكي، اليهودي الجزائري الأصل، الذي كان مستشاراً لبن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي، ثم مساعداً لعمدة القدس (تيدي كوليك)، أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. ويذكر أن أندريه شوراكي ترجم القرآن إلى الفرنسية، كما ألّف العديد من الكتب عن الحضارات القديمة.
يحاول الفيلم تصوير التراكم الثقافي العربي ــــ الإسلامي واليهودي والمسيحي لمدينة مثّلت عنصر الصراع على مدى قرون. لكنّه لا يخفي انحيازه إلى ثقافة الدولة العبرية التي يبدو قيامها لحظة بطوليّة تنصف شعباً مضطهداً هو شعب الله المختار، من دون تركيز حقيقي على أن شعباً كاملاً انتُزع من تلك الأرض، وأن الكيان المغتصب الذي يصادر الحقائق ويرسم وجوده بكل وسائل التزوير التاريخي، قام على أنقاض دولة ووطن وهويّة حضاريّة.
كذلك فإنّ تسويق فيلم «وا قدساه» في بريطانيا والولايات المتحدّة، وسعة انتشاره، والدراسات التي كتبت عنه، تشير إلى ترويج مرسوم ومخطط له، لا يهدف إلى جوائز مهرجانات مثل «نانت» و«برلين» و«أمستردام»... بل يرنو إلى الأوسكار! وهذا من شأنه أن ينال تكريساً لخطاب سياسي خطير، يتلفّع بوشاح السذاجة والطوباويّة، مساوياً في نواياه «السلميّة» بين الضحيّة والجلاد!