«زيتٌ على قماش وهيكلٌ مطابق للحجم الطبيعي للإنسان مصنوعٌ من المواد البلاستيكية اللاصقة وأوراق الجرائد في دلالة على إعادة تدوير الأشياء التالفة في الطبيعة وتخزينِ كلّ حكايا الجرائد في جسدٍ جامد. كأنّه يقول في هذا العمل بأنّ كلّ التنظير الذي قيل وسيُقال عن معاناة الإنسان العربي لا يوازي حزن هذا الأب الذي فقد أسرته وفقدته».
هكذا تقول الورقة المعلّقة بجانب تجهيزٍ فنّيٍّ بعنوان «الأب المفقود» (Missing The Father) للفنان السوري ثائر معروف (1972). الورقة معلّقة على حائطٍ. والحائط ليس في صالة معرض أو ملتقى فني يقصده محبّو الفن والمختصّون به، بل هو على أحد جدران «مقهى ة» (تاء مربوطة) الذي يعجّ بروادٍ مختلفي الاهتمامات. حالما يدخل مرتادو المقهى الذي استعاد أنشطته الثقافية والفنية أخيراً، حتّى يأتي التجهيز محطة صادمة يتوقّفون أمامها. صدمة تختلف ردود الفعل عليها، بين إعجابٍ بتقنيّة العمل الفنية التي تميّز اشتغالات ثائر معروف، وبين رهبةٍ تصل حدّ الخوف والنّفور من رسالة العمل القاسية. حضورُ أبٍ فقدته عائلته وعاد بهيكل شبحٍ مكفّن بالأبيض ليحتضنها، وتشخيص أولادٍ في اللوحة بوجوههم الرمادية اللون، كأنّهم كلّهم أشلاء ناجية أو مصابة أو ميتة جرّاء انفجارٍ أصاب بيتهم وعائلتهم وذاكرة المكان في وطنهم.

تجهيز يحاكي الوضع
السوري واغتراب الإنسان
هنا تكمن رسالة العمل الذي لا يكتفي بتجسيد الواقع المرير المُعاش في سوريا، بل يعيد الناظر إليه الى مشاهد أطفال قانا وغزّة وسنجار والموصل وحلب وكلّ الأماكن التي نفقدها وتفقدنا. وهنا أيضاً يأتي العمل بقساوته ليشكّل صدمةً في مكانٍ غير مألوفٍ، في مقهى، يأتيه الناس للعمل أو الترفيه هاربين من فوضى المدينة وأخبارها التي تصطادهم أينما اتّجهوا. يعيدهم بموقعه وبرسالته الى مواجهة التناقض الكامن في ذواتهم المنغرزة في المكان والهاربة منه في وقتٍ واحدٍ. عندما قرّر المقهى استقدام العمل من «غاليري مارك هاشم» وعرضه لمدّة أسبوعين، كان ثائر معروف المقيم في لبنان منذ أكثر من عشر سنوات، يتحضّر للمغادرة بشكلٍ نهائي إلى أوروبا بعدما أصبحت تسوية إقامة السوريين في لبنان رهينة أمزجة السلطات. أصبح لعرض العمل في «مقهى ة» رسائل عدّة الى جانب موضوعه الفني. يشير الفنّان من خلال عمله إلى أنّ التنظير كلّه في وصف معاناة إنساننا، لن يكفي ليعبّر عن حزن فقدان هذا الإنسان، ميتاً كان أم هائماً على وجهه في هذا العالم من دون ملامح.

* «الأب المفقود» ـــ حتى نهاية شهر آذارــ مقهى «ة» (الحمرا)