بيار أبي صعب

•باليه القرن العشرين: جنّاز للزمن الحاضر

أطفأ شموعه الثمانين، وضع اللمسات الأخيرة على عرضه ـ الوصيّة«جولة حول العالم في ٨٠ دقيقة»، ثم مضى... تاركاً وراءه ٢٣٠ عملاً شكّلت مزاج نصف قرن من تاريخ الرقص المعاصر. إنّه موريس بيجار الذي دخل الإسلام من باب التصوّف الإيراني، وراكم الأساليب لصياغة فنّ خلاسي أراده نخبويّاً للجميع!

ليلة العشرين من كانون الأوّل (ديسمبر) المقبل، حين تهبط الستارة على العرض العالميّ الأوّل لباليه موريس بيجار الجديد، لن يخرج مصمّم الرقص الأشهر من كواليس مسرح Beaulieu في لوزان، لتحيّة المشاهدين الذين جاؤوا لاستقبال «جولة حول العالم في ٨٠ دقيقة». المارد ذو المنكبين العريضين، والنظرة الزرقاء، واللحية الصغيرة المسننة، ترك استعراضه الأخير في عهدة فرقة «باليه بيجار لوزان» وجيل رومان ساعده الأيمن ووريثه، وغادر المدينة السويسريّة أوّل من أمس، بعد منتصف الليل. «لا شك في أنّه الآن يراقص النجوم»، قال باتريك دومون الذي سبق أن رقص الـ«بوليرو» الأسطوري، أحد الأعمال الأولى التي صنعت أسطورة موريس بيجار...
حتى اللحظات الأخيرة تابع التمارين على العمل الجديد، قبل أن تسوء حالته الصحيّة، وتتفاقم مشاكل القلب والكلى التي يعانيها. برنامج «جولة حول العالم في ٨٠ دقيقة» جاهز: بعد لوزان هناك باريس في شباط (فبراير)، ثم بلجيكا وإسبانيا فاليابان، حيث ينتظره الجمهور من عمل لآخر. لكن الوقت لم يمهل الفنّان هذه المرّة، هو الذي طالما لاعب الموت. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إنّ معظم عروض الباليه التي صمّمها بيجار، مازجاً بين المناهل الفلسفيّة والأدبيّة والبصريّة والموسيقيّة... كان يدور ـــــ بمعنى ما ـــــ حول الغياب.
قبل أشهر حين أطفأ شموعه الثمانين، قال إن الموت أمر محتوم: «تختلف طريقة احتساب الزمن من شخص لآخر، لكن كلًّا منّا يموت في الوقت المناسب». مات بيجار في الوقت المناسب إذاً، بعدما أنجز عرضه الوصيّة، تاركاً وراءه ٢٣٠ عملاً راقصاً (يعترف بنفسه بأن ١٥٠ منها وضيعة). مات بعد مسيرة صاخبة امتدت على نصف قرن، غيّر خلالها مجرى الرقص المعاصر، وغيّر طريقتنا في التعاطي مع هذا الفنّ بعدما أخرجه من عزلته ونخبويّته... كاسراً قيوده الأكاديميّة والكلاسيكيّة، مشرّعاً آفاقه على مختلف اللغات والقوالب الإبداعيّة (الشعر، والمسرح، والسينما...)، والمشاغل الإنسانيّة.
منذ الستينيات نزع عن راقصاته وراقصيه أزياء الباليه المعهودة، وألبسهم الدجينز و«الكولان» وثياب التمارين وملابس كل يوم. بيجار هو الرجل الذي صالح الجمهور العريض مع الرقص في القرن العشرين، جعله احتفالاً شعبياً في متناول العامة، وأخرجه من هيبة الفضاءات المكرّسة... إلى المدارج الرياضيّة وحلبات السيرك والأماكن القريبة من حياة الحاضرة... كل ذلك جعل من الراقص والكوريغراف الفرنسي، المولود على المتوسّط في مدينة مرسيليا الجنوبيّة، أشهر مصمّمي الرقص على الإطلاق...
أخذ عليه كثيرون أسلبة كتابته الكوريغرافيّة، مع الوقت، ونزعتها الاستعراضيّة، غنائيّتها ومغالاتها، وبقاءها في أسر الكلاسيكيّة في المصاف الأخير... واستسلامه، في السنوات الأخيرة، لإعادة إنتاج إنجازاته نفسها، تلك التي كان وقعها كالصدمة في الخمسينيات والستينيات، وصارت بعد الثمانينيات «ماركة مسجّلة» ينسج على منوالها... لكن هذا النقد يتجاهل طبعاً إنجازات بيجار على مستوى تبسيط الكتابة الكوريغرافيّة من دون تسطيحها، وقلقه الدائم في البحث عن حلول إبداعيّة وابتكارات حركيّة قادرة على ترجمة رؤاه الفكريّة. وهل ننسى الدور الذي لعبه في ترسيخ فنّ الرقص وتطويره، من خلال فرقة «باليه القرن العشرين» التي أسسها عام ١٩٦٠ في بروكسيل، ثم «باليه بيجار لوزان» الذي أطلقه قبل عشرين عاماً بالتمام؟ هل ننسى أن المدارس التي أسسها Mudra (بروكسيل ثم داكار)، وRudra (لوزان)، خرّجت بعض أبرز مصمّمي الرقص المعاصر في أوروبا خلال ربع القرن الأخير، مثل ماغي مارين وآن تيريزا دي كيرسماكر...؟
لا شك في أن موريس بيجار الذي اعتنق الإسلام في عام ١٩٧٣ (على يد المتصوف الإيراني نور علي إلهي)، بعد تماسه مع الحضارتين العربيّة والفارسيّة، كان مقتنعاً بدوره «الرسولي» في تطوير الرقص وإيصاله الى الناس. وإلا لما كرّس لهذا الفنّ حياته كلّها، مثلما يشهد هذا الإنتاج الغزير على مستوى الإبداع وفي مجال إعداد الطاقات الجديدة، فضلًا عن الكتابة والإخراج المسرحي والأوبرالي. لقد رقص بيجار حياته، فعل ذلك حتّى آخر رمق باعتبارها طريقة وجوده الوحيدة الممكنة. حافظ على المقاربة الكلاسيكيّة والقوالب الأكاديميّة التي نشأ فيها مع فرقة رولان بوتي في باريس، أو معلمته الروسية في لندن. لكنّه فتحها على الحياة، على العصر. ترك للراقصين أن يطلقوا العنان لذاتيّتهم، وحساسياتهم الخاصة... طرق النيوكلاسيك والجاز والروافد الإتنيّة المستوحاة من الشرق البعيد... وصولاً الى الهند. وكان أن غيّر روح الرقص المعاصر، إذ بات معه حسّياً وانفعاليّاً بقدر ما هو مقدّس!
موريس ــــ جان بيرجيه (١/١/ ١٩٢٧ ـــــ ٢٢/١١/ ٢٠٠٧) بدأ من الفلسفة، هو المولود في كنف الفيلسوف غاستون بيرجيه. كان يميل الى المسرح والسينما، لكنّه وجد نفسه في أحضان الرقص منذ الرابعة عشرة. واستعار لاحقاً اسمه الفني، من أرماند بيجار، زوجة موليير الذي خصّه بعرض في عقر داره «الكوميدي فرانسيز» عام ١٩٧٦ بعنوان «موليير الوهم». منذ عمله الكوريغرافي الأوّل «سمفونيّة لرجل واحد» (١٩٥٥)، أعلن الثورة على الباليه المتعارف عليه، بانياً رؤاه على مؤلفات بيار هنري وبيار شيفر. لقد مزج في هذا العمل المفردات الكلاسيكيّة والحديثة، وأقام علاقة عضويّة بين الأبعاد الدراميّة والإيقاعيّة والصوتيّة. وإذا كانت «الموسيقى المحسوسة» التي تميّز هذا العمل، سترافقه من خلال أعمال بيار هنري، فإن علاقة بيجار بالموسيقى، عامة، أساسيّة في كتابته الكوريغرافيّة. كان يتشبّع منها، ويجعلها تنفذ إلى كيانه، ومن ثم إلى جسد المؤدّي: من التانغو الأرجنتيني إلى الـ«بينك فلويد»، من سترافينسكي إلى رافيل، من باخ إلى موزار، مروراً ببيتهوفن وماهلر و... بيار بوليز.
نجاحه الأوّل كان مع «تطويب الربيع» لسترافينسكي (١٩٥٩) في بروكسيل الذي فتح له أبواب «قصر لا مونيه». بعدها بعام أسس «باليه القرن العشرين»، وكانت رائعته «بوليرو» (١٩٦١)، عن مقطوعة رافيل، هي الطريق الفعلي إلى التكريس. وكان لا بد من أن يبادر المسرحي الكبير جان فيلار لدعوة بيجار إلى «مهرجان أفينيون المسرحي» في الجنوب الفرنسي، حيث قدّم، عام ١٩٦٧، في باحة «قصر البابوات»، باليه «قداس للزمن الحاضر»، كي يحتلّ مكانته الخاصة التي لن يخسرها أبداً، لدى الجمهور العريض. وأسهم الباليه المذكور أيضاً في التعريف بكاتب موسيقى العرض. لقد طارت شهرة بيار هنري، وارتفع مبيع اسطواناته... وذاعت «الموسيقى المحسوسة»، و«الجيرك الإلكتروني».
تطول قائمة العروض التي طبع من خلالها بيجار ذائقة أجيال، وأرّخ جمالياً وثقافياً للقرن العشرين. كان رافضاً مفهوم «الأسلوب»، إذ جمع في فنّه الهجين خليطاً كوسموبوليتياً من المصادر والأساليب... ساعياً أبداً وراء المسرح الكلّي، أو العرض الشامل الذي يتسع لمختلف الروافد البصريّة والموسيقيّة والحركيّة، ولا يضيق بإديث بياف وجاك بريل وباربارا، أو فلليني وبازوليني، ولا بمالرو وآرتو، أو بودلير ورينيه شار وهولدرلين...
كان بيجار يولي الجانب الروحاني لفنّ الرقص اهتماماً كبيراً. لقد استمدّ حكمته المفضّلة من قول نيتشه: «لا يسعني أن أؤمن بإله لا يجيد الرقص». وبعد انطفائه، كشف صديقه الكاتب ميشيل روبير، أن الفنان الراحل عبّر عن رغبته في أن ينثر رماده على الشواطئ البلجيكية، وتحديداً فوق رمال مدينة أوستاند.