عثمان تزغارت
ما زال يرى نفسه ماركسياً، لكنّه يدافع عن الإسلاميين، ويصنّف عملياتهم الانتحارية في خانة «التصوّف الإيجابي». عودة إلى الكاتب الجزائري الرائد الذي يهوى النميمة، ويعترف بأنّه
«أشخاص عدة في شخص واحد»؟


لا شكّ في أنّ الأديب الجزائري الطاهر وطار (1936) يحتلّ موقعاً طليعياً بين كُتّاب الرواية العرب. هو ينتمي إلى جيل الروّاد المؤسّسين للأدب المغاربي، لا سيما شقّه المكتوب باللغة العربية. فضلاً عن ذلك، كانت له منذ أواخر الثمانينيات إسهامات بارزة في التأسيس للعمل الثقافي المستقل من خلال جمعيته الشهيرة «الجاحظية». وهذه الأخيرة أكبر مؤسّسة ثقافية حرّة على صعيد المغرب العربي، وتضم دار نشر تعنى بالأدباء الشباب وتُصدر مجلات عدة، وتشرف على جوائز ثقافية بارزة.
رغم تلك الانشغالات الثقافية التي يضطلع بها الطاهر وطار (71 سنة) يومياً، ورغم إنتاجه الأدبي الغزير الذي يفوق عشرين عملاً، بين الرواية والقصة القصيرة والمسرح والسيناريو السينمائي، فإنّ كل ذلك لا يشغل هذا المثقف الإشكالي عن ممارسة ما يسمّيه هوايته المفضلة: النميمة!
لا يكاد يمر أسبوع من دون أن تضجّ الصحف الجزائرية بتصريحات نارية أو مواقف مثيرة للجدل يتعمّد وطار من خلالها تفجير المعارك الإعلامية دورياً. كأنه ـــــ عن وعي أو من دونه ـــــ يريد أن يبقى بأي ثمن في دائرة الضوء، خشية أن ينساه الناس. ألم يعترف في مذكراته بأنّه حاول الانتحار إثر تنحّيه عن قيادة «جبهة التحرير» (الحزب الحاكم في الجزائر) مطلع الثمانينيات، لأنه وجد نفسه وحيداً ومهمّشاً، بعدما انفضّ عنه الأصدقاء والأتباع والمريدون؟!
آخر «خرجات» الطاهر وطار تصريحات غريبة أدلى بها لصحيفة «جزائر نيوز» الشهر الفائت اتهم فيها السفارة الفرنسية في الجزائر بتدبير عملية اغتيال الشاعر يوسف سبتي الذي عُثر عليه مذبوحاً في منزله عام 1994، أيام الهجمة الأصولية التي كانت تستهدف المثقفين في الجزائر! وكان قد سبق للطاهر وطار أن أطلق مثل هذه التهم في منتصف التسعينيات، من دون أي يقدّم دليلاً مقنعاً. وذهب في تخميناته يومها أبعد من اتهام السفارة الفرنسية، قائلاً إنّ يوسف سبتي كان رجلاً أعزب يعيش وحيداً، ربما اغتاله لصوص للسطو على ممتلكاته أو لعل الجيران تآمروا عليه للاستيلاء على بيته!
كان واضحاً آنذاك أنّ وطار مستعدّ لتصديق الروايات المحتملة كلّها، عدا الاحتمال الأرجح الماثل أمام أعين الجميع، وهو أن يوسف سبتي اغتالته الجماعات الإسلامية المسلحة، على غرار ستين صحافياً وكاتباً جزائرياً سقطوا برصاص التطرف في حقبة التسعينيات. السرّ في ذلك أنّ سبتي كان نائب رئيس جمعية «الجاحظية» التي يرأسها الطاهر وطار. وهو ما كان يملي على الأخير واجباً أخلاقياً في إدانة القتلة، أيّاً كانت هويتهم. لكنّه بدلاً من ذلك، راح يتملّق الحركات الإسلامية المسلحة في روايته الملتبسة «الشمعة والدهاليز» فصوّرها كأنها «حركات ثورية تدافع عن حقوق الطبقات الشعبية المسحوقة»، ثم صفّق لقتلة الروائي الطاهر جعوت قائلاً : «لن تحزن عليه سوى زوجته وأولاده وفرنسا»!
كان بديهياً خلال سنوات العنف والإرهاب أن ينحني الطاهر وطار للعاصفة، على غرار مثقفين آخرين، خشية أن تطاله أيدي القتلة. لكن من الغريب أن يعيد اليوم فتح تلك الملفات بنفسه، رغم أنها شكّلت نقاطاً سوداء غير مشرّّفة في مساره بصفته مثقفاً تقدّمياً وعرّضته لعزلة قاسية دامت سنوات. حتى أنه قال ذات مرة: «أخشى إن متُّ، ألا يمشي في جنازتي أحد»!
قبل أسابيع، فجّر الطاهر وطار معركة أخرى، بإعلانه أنه انتهى من تأليف رواية جديدة بعنوان «قصيد في التذلّل» للتنديد بمن سمّاهم «شعراء البلاط» في إشارة إلى عدد من الشعراء الشباب الجزائريين الذين أُسندت لهم أخيراً مناصب «مديري الثقافة» في مختلف ولايات البلاد. لا شك في أن الجميع كان سيصفّق تقديراً لموقف وطار الرافض للمثقف الوظيفي التابع للمؤسسة الرسمية. لولا أنّه في هذه الرواية كان مثل من يرمي الآخرين بالحجارة وبيته من زجاج! فقد كان على مدى عشرين سنة «مراقباً سياسياً سامياً» في «جبهة التحرير»، أيام حكم الحزب الواحد. فيما كان رفاقه اليساريون يموتون تحت التعذيب في زنازين العقيد هواري بومدين.
كل ذلك لم يمنع وطار من أن يكتب في سيرته الرسمية أنه عمل «معارضاً سرياً» منذ انقلاب حزيران (يونيو) 1965 حتى نهاية الثمانينيات... رغم أن كثيرين من قرائه ما زالوا يذكرون أنه كان يفاخر بأن منصبه «مراقباً سياسياً» في الحزب أهم من أي ضابط برتبة «عقيد» (كان ذلك قبل أن يُنعم الله على الجزائر بفئة الجنرالات!). المذهل أنّ هذه الازدواجية لا تخفى على الطاهر وطار نفسه، هو يعترف في مذكراته بأنه يشعر كأنّه «أشخاص عدة في شخص واحد» (بعض أصحاب الألسنة السليطة قد يسمي ذلك فصاماً!). ويمضي في تلك المكاشفة مضيفاً: «لا يمكن أن نعرف حقيقة كاتب مثلي إلا بالغوص في المستنقعات التي كان يتخبط بها»!
تُرى ما الذي أرغم الطاهر وطار على الغوص في مستنقعات «الحزب الواحد» الآسنة، هو المثقف اليساري الذي أسّس في الستينيات، مع رفيقيه الطاهر بن عيشة والعفيف الأخضر، صحيفة «الجماهير» التقدّمية التي كان شعارها «أسبوعية مستقلّة يصدرها الطاهران والعفيف»؟
على رغم مرور ربع قرن على خروج الطاهر وطار القسري من قيادة «جبهة التحرير» بعد إحالته على «التقاعد المبكّر»، وهو في السابعة والأربعين، بسبب توجهاته اليسارية، لم ينجح حتى اليوم في التخلص من مطبات الفكر الأحادي الذي علق به ـــــ كما يعترف ـــــ من جراء تخبّطه في مستنقعات تلك التجربة الحزبية. هو ما زال مثل شخصية «خاتم» في روايته الأشهر «عرس بغل» يعاني انفصاماً يجعله يصرّ على «النظر إلى الجدران الأربعة في آن واحد». وهو ما يفسّر التناقض والزئبقية اللذين يطبعان مواقفه والتمزق الفكري المزمن الذي يعانيه. حتى أنه شبّه نفسه في روايته «العشق والموت في الزمن الحراشي» بالإله برهما الذي شقّ روحه إلى نصفين متناقضين، في الأساطير الهندية القديمة!
لعل خير مثال على هذا الانفصام أنّ وطار لا يرى نفسه «يسارياً سابقاً»، فهو يقول إنّه ما زال متمسكاً بماركسيته. وفي آخر حواراته، تحدّث عن حنينه إلى «أمجاد الاتحاد السوفياتي العظيم». إلا أنه في التصريح ذاته يشيد بانتحاريي الجماعات الإسلامية الجزائرية ويصف ما يمارسونه من «عمليات انتحارية» بأنه نوع من «التصوّف الإيجابي»!
أما في روايته الأخيرة «قصيد في التذلّل»، فإنه يوجّه تحية تكريم للرموز التاريخية للحزب الشيوعي الجزائري، أمثال البشير حاج علي، وعبد الحميد بن زين، ومحمد حربي، قائلًا إنّهم «رفاقه». مع أنّ الجميع في الجزائر يعلم أن الأول أُصيب بالجنون تحت التعذيب، والثاني أُرغم على حياة التخفي والسرية لأكثر من عقدين، بينما اضطُر الثالث للمغادرة إلى المنفى... في الوقت الذي كان فيه «الرفيق» الطاهر وطار مراقباً سياسياً سامياً في الحزب الحاكم!



هكـذا طــردتُ ميشــل عفلــق مــن الجزائـــر

يشكو صاحب «الشمعة والدهاليز» في مذكراته من التمزق الذي عاشه في تجربته الحزبية، إذ كان من الكوادر الحزبية البارزة في «حزب حاكم» يقول إنّه لم يكن يتفق مع توجهاته التي تتناقض جذرياً مع قناعاته كمثقف يساري. لكن مذكرات الطاهر وطار تحفل بمفارقات كثيرة، تبين أنه كان منسجماً إلى حد كبير مع ممارسات «الحزب الواحد» الذي انتمى إليه. فهو يفاخر مثلاً بأنه تسبّب في طرد الزعيم البعثي ميشال عفلق من الجزائر، ويقول: «هاجمتُ عفلق في جريدة «الأحرار» التي كنتُ كل شيء فيها، ما جعل الرئيس بن بلّة يطرده بحجّة أنّه دخل الجزائر متسلّلاً».
في موقع آخر من المذكرات، يروي وطّار أنه ذهب إلى وزير الثقافة رضا مالك، أيام كان مراقباً في الحزب، طالبا أن تُقتبس روايته «الزلزال» سينمائياً، فأصدر الوزير على الفور أوامره بذلك إلى مدير الديوان الوطني للإنتاج السينمائي. وطلب الأخير لقاء وطار للتباحث معه في الأمر. ويقول صاحب «اللاز» إنّه اشترط أن يتولّى ألفرد فرج كتابة السيناريو، وأن يُسند الإخراج إلى صلاح أبو سيف. فسأله مدير ديوان الإنتاج السينمائي: «من هو صلاح أبو سيف هذا؟ هل له أفلام سابقة؟». لم يستنكر وطار ذلك، بل التمس الأعذار لجهل ذلك المسؤول، قائلاً إنّه كان سابقاً مديراً لوحدة توزيع الإسمنت، ووجد نفسه بالمصادفة على رأس ديوان الإنتاج السينمائي!