strong>جلنار واكيم
منذ 12 عاماً وفيليب باس يجوب شوارع باريس مع «صديقة عمره»! إنّها آلة البيانو التي يجرّها على عربة خشبية، مستقرّاً كلّ يوم على أحد أرصفة تلك العاصمة الصاخبة. عندما يصل الى الشارع المنشود، يجلس أمام البيانو، يضع صندوقاً فيه بضع قطع نقدية ويباشر العزف طوال اليوم. بالطبع، لم تعد ظاهرة العازف المتجوّل غريبةً في المدن الأوروبية، إذ نشاهد كثيرين منهم في محطات القطار أو المترو أو على الطرق، لكنّ حالة فيليب فريدة من نوعها، ومهمّته تصبح أصعب مع آلته الثقيلة الوزن!
بدأ هذا الموسيقي والمؤلف حياته المهنية أستاذاً للرياضيات في إحدى مدارس باريس بعدما حصل على ماجستير في تلك المادة. تعلّم العزف الكلاسيكي على البيانو عندما كان صغيراً لمدة سبع سنوات. وبقي البيانو مجرّد هواية بالنسبة إليه... إلى أن صودف يوم سمع فيه فيليب مقطوعة جاز بينما كان في محل تجاري. فسأل عن اسم المقطوعة، لكن الكثيرين كانوا يجهلون أي شيء عنها. عندها، بدأ فيليب يزور حانات الجاز الباريسية يومياً، باحثاً عن المعزوفة وهوية المؤلف. ما اكتشفه أنّ المقطوعة تنتمي إلى نوع موسيقي اسمه «السترايد» وهو جاز يعود إلى فترة الثلاثينيات. هكذا عاد فيليب إلى شغفه الأول وراح من جديد يعزف على البيانو في «حانة لندن» في باريس. بقي هناك خمس سنوات، بعدما ترك نهائياً مهنة التعليم.
لكن متى صار فيليب عازفاً متجوّلاً؟ يجيب أنّ ذلك بدأ عندما تحدّاه صديق له يعزف على آلة الكلارينيت وسأله إن كان «يجرؤ على أن يعزف في الطريق». قَبِل فيليب التحدي واستأجر بيانو صغيراً وبدأ يعزف في الشوارع برفقة صديقه. راح المغامران يتجولان في المدينة، يعزفان في أزقتها وشوارعها. وسرعان ما اكتشف فيليب لذة العزف في الطريق وما يحيط بها من حرية ولقاءات لامتناهية. منذ ذلك اليوم، لم يتوقف! ترك الحانة واتخذ الشارع مسرحاً له، وألّف وسجّل ست أسطوانات. وهو يشارك في مهرجانات الجاز العالمية ويحلم بحمل البيانو والعزف في شوارع أخرى غير العاصمة الفرنسية.
وفيليب أول عازف بيانو في باريس «يجرؤ» على النزول الى الشارع. اليوم بات هناك اثنان آخران. والأماكن التي يزورها متنوعة. فالشارع هو بيت فيليب في الفصول كلّها، بل إنّ موسيقى «السترايد»، على حد تعبيره، تتطلّب جهداً جسدياً، ما يبعث الدفء فيه خلال الشتاء ويساعده في مقاومة الجو القارس... يرى فيليب أنّ جمهور الحانات «مستمع سيّئ. فهو يأتي الى الحانة ليأكل ويتكلم أكثر مما يأتي للموسيقى. أما في الشارع، فالجمهور يحسن الاستماع أكثر».
لكن ماذا عن مساوئ العزف في الشارع؟ يقول فيليب إنّ المجتمع ما زال يعتبر العازف المتجوّل مجرد مشرّد أو متسوّل أو حتى لص... ومن هنا، فان عائلة فيليب «تخجل» اليوم من مهنته، لكنه يقول إنّ «أجمل شيء أن تستوقف موسيقاي أحد المارة وتغيّر مزاجه، فترتسم ابتسامة على وجهه قبل أن يكمل طريقه إلى العمل أو البيت».