strong> خليل صويلح
يختزل جورج بهجوري المسافة بين الكاريكاتور واللوحة والمنحوتة، فهو يرسم بورتريهات تجمع كل هذه العناصر والتقنيات على سطح واحد، لتحمل في نهاية المطاف بصمته الشخصية وقدرته العميقة على التكثيف. وفي إطلالته الأولى على الجمهور الدمشقي، أراد الفنان المصري المعروف أن يمزج تجارب تنتمي إلى مراحل مختلفة، هي حصيلة سنوات من العمل المتواصل على وجوه وحالات إنسانية شديدة التنوع والابتكار. هكذا، ضمّ معرضه الفردي الذي يقام في «غاليري أتاسي» حتى 30 من الشهر الحالي، 26 لوحة من أحجام مختلفة، تناول فيها ثيمته الأزلية «الوجه». هنا، نتعرف إلى وجوه غارقة في أقصى حالات الوجد، وخصوصاً في مجموعة اللوحات التي تتمحور حول الآلات الموسيقية. إذ تتوحد الوجوه والأيدي مع المعزوفة، فتغيب الملامح تماماً، لتختزن تعبيراتها في العود أو الكمان أو الدف، إلى درجة الإصغاء العميق نحو شجن الداخل بكل أحزانه وتعبيراته الحسيّة.
يشكّل محو تفاصيل الوجه أحد انشغالات جورج بهجوري الأساسية، فهو يقتصد في رسم عناصر الوجه إلى عين أو أنف، لشحن حالاته التعبيرية وتأجيج الحواس، نحو النظر أو الشمّ في المقام الأول. ولعل نقطة الارتكاز المحورية في سطح اللوحة، هي العين. العين المفتوحة إلى أقصى الحلم، أو الحزن، وهو يستعيرها بشكل صريح من الفن المصري القديم، حتى إنّه يستعملها في توقيع لوحته أو رسومه الكاريكاتورية بوصفها علامة شخصية.
يغرف بهجوري أشكال وجوهه من الشارع المصري في أيقونات تنتسب إلى العالم الداخلي لشخصياته الغارقة في أشجانها وأحلامها المؤجلة، بخط أو لمسة لون كثيف، كأنه بذلك يمنحها قدسيّة اليومي. هذه الوجوه أسيرة أحزانها الشخصية وتعبها الحياتي، لكنّها في المقابل تختزن قدراً من الفرح المخبوء. لوهلة، تبدو لوحات بهجوري عفوية أو فطرية، لكن نظرة متأملة تكشف عن حرفة عالية في بناء معمار تشكيلي خاص بهذا الفنان وحده، يتلامح بإشارة عجلى إلى عوالم لامرئية تشكل هواجس هذه الشخصية أو تلك.
في لوحته «أم كلثوم»، يرسم تضاريس وجه هذه المغنية الاستثنائية، ويؤكد على فمها وحنجرتها، وحركة يديها وشالها، في منطقة ملتبسة بين الكاريكاتور والتشكيل.
حكاية بهجوري مع الوجوه بدأت برسم عبد الناصر في كاريكاتور شهير بالغ فيه برسم أنفه، وقد احتل غلاف مجلة «روز اليوسف» يومها. وحين مرّ الأمر بسلام، رسم شخصيات أخرى، لكنّه لم ينل الرضى من أصحابها، إذ قاطعته أم كلثوم فترة طويلة، وكذلك محمد عبد الوهاب. أما السادات، فقد وضع اسمه على القائمة
السوداء.
ويعترف بهجوري القادم من عمق الصعيد المصري بأنّه تلميذ رسام الكاريكاتور الشهير حسين بيكار وصاروخان، قبل أن يلتقط أسلوبه الشخصي في رسم بورتريهاته، جنباً إلى جنب مع صلاح جاهين والليثي.
وفي باريس التي أقام فيها طويلاً، عاش بهجوري لحظات صفاء، أدرك خلالها أهمية الصدق في التعبير عمّا يمور في الداخل. وبذلك اكتشف هويته الفرعونية والقبطية، سواء في رسم الأيقونات المستمدة من الشارع، أو لجهة الخطوط الواضحة والثخينة في رسم ملامح الشخصيات بكل تمزقاتها وكسورها وتصدعها وخشونتها.

«غاليري أتاسي» (دمشق) ـــــ +963113321720