سعد هادي
لم يصدر رعد عبد القادر خلال حياته القصيرة (1953 ـــــ 2003) الا أربع مجموعات شعرية، وقد ظلّ شبه مجهول عربياً حتى لحظة وفاته، تاركاً وراءه العديد من المخطوطات التي قد لا تبصر النور قريباً. «دار المدى» أصدرت له «عصر التسلية» و«صقر فوق رأسه شمس» في كتاب واحد. وقد
بدأ رعد عبد القادر النشر في وقت مبكر، إذ صدر كتابه الشعري الأول «مرايا الاسئلة» عام 1979. ولم تصدر مجموعاته اللاحقة إلا بعدها بزمن طويل، بدءاً من «جوائز السنة الكبيسة» (1995) و«دع البلبل يتعجب» (1996) وصولاً إلى «أوبرا الأميرة الضائعة» (2000). نكتشف في هذه الكتب تحولات رعد عبد القادر شاعراً، وتطور مشاغل الجيل الذي ينتمي إليه: جيل السبعينيات واستجاباته للتحولات السياسية والاجتماعية العنيفة والمضطربة التي شهدها العراق خلال سني حكم البعث، وقد عاش الشاعر حياته في ظلها. من جهة أخرى، يمثل عبد القادر حالةً نموذجيةً لفقدان الأمل وللتجاهل المرائي للسلطة التي أجبرت كثيرين على الصمت أو على البقاء في الظل. هكذا، لم يكن رعد بعيداً عن المؤسسة الثقافية الرسمية، لأنّها الوحيدة التي وفرت له مصدراً للعيش. وعلى رغم ارتداده عليها في تسعينيات القرن المنصرم، بمحاولة فتح مشروع تجاري صغير، سرعان ما عاد اليها، شأن كثيرين في تلك السنين. لكنّ هواه لم يكن معها، هو كان يمارس حياته مثقفاً على صعيد آخر خفي، يميل الى الكتمان ولا يفصح عن توجهاته إلا نادراً. وكان يطور رؤية فردية تجمع بين الاستبطان الصوفي، واستلهام ما هو عابر في التاريخ، وتبسيط القول حد الاقتراب من السذاجة: «الغرباء عادوا، لقد مضى وقت طويل/ ربما عشرة أعوام، أكثر أو أقل/ تذكروا أنّ غربتهم طالت اكثر مما توقعوا/ عندما دخلوا السوق فاجأتهم رائحة الفاكهة والريح».
كان رعد عبد القادر يخفي مئات القصائد مثل هذه، قد تزيد أو تنقص في إتقانها، أو مباشرتها، أو تعارضها مع سياسة الصوت العالي التي نجحت السلطة في فرضها. وكان يضع قصائده جانباً، يؤسس لمشاريع شعرية متتالية لم يجاهر بها في حياته. دائماً يواجه مرايا أسئلته، ثم تعيده حساسيته المفرطة الى ذاته. كان حالة نموذجية لفقدان الأمل: لا جدوى من الشعر، لا جدوى من الثقافة بل لا جدوى من الحياة، ماذا تبقّى إذاً؟ القليل من الحلم والقليل من مراوغة الموت حتى يحين. إنّها حالة عراقية بامتياز، وهي متواصلة منذ قرون، تنحسر أو تتفاقم بتأثير المحيط الخارجي، لكنّها مستمرة في لاوعي العراقيين. لهذا السبب، تصوّر قصائد عبد القادر موتاً أو تتنبأ به، أكان موته هو أم موت آخرين، ولا نبذل جهداً كبيراً للعثور عليها، هناك دم وانفجارات وقتلة متخفّون دائماً: «إنهم يسحبون الجثة /ويوارونها في الحديقة/ في الصباح خرج الرجل الأعمى/ مادّاً يده الى امام/ إنه يتّجه الى النهر/ كانت الابتسامة تخفي جريمته»... أو «الطيور الورقية تمر على وجه قمر الحروب/ خيطها يلتفّ بجسد الليل/ دمعة كبيرة تسقط من عين القمر على جرس المدرسة/ ثمة يد مقطوعة الاغصان».
كان رعد يعود الى تفاصيل الحياة اليومية ليصنع منها قصائده، حتى الوقائع التاريخية كان يحيلها، مثل كفافيس، الى وقائع عابرة في حياة أبطالها. كان يقحم الخلفاء في الاسواق، والملوك في الملاهي الليلية، ويوقف الابطال ليطرح عليهم أسئلة عابرة. كان حس المفارقة ينقذ قصائده من أن تكون تجارب ذهنية محضة: هناك مواجهة دائمة في شعره بين المقدس والسطحي، بين الفج والماورائي، بين الذكاء والتنطع، وهناك أيضاً شخصيات تأتي من الماضي أو تنتقل من الحاضر اليه، محاطة بالالغاز، تمثل ادواراً مثلتها قبلاً، مسرح الآن يتداخل مع مسرح الماضي، حياتها لا مرئية مثلما يسمّيها هو، تحفل بأسرار غنوصية، كائنات علوية تعطي للشعر خلوداً، لكنها تقتل الشاعر، أو تجعله ينهي حياته فجأة تاركاً مخطوطاته ومشاكله ومتعه.
رعد عبد القادر الذي توفي فجأة في 13 كانون الثاني (يناير) 2003 إثر نوبة قلبية، كان يتنبأ بالكارثة التي ستحدث بعد رحيله، يصوّرها أحياناًَ كأنه يراها: «في هذا المساء خرج الرجال الى الشارع ببنادقهم الآلية/ هربوا باتجاه العدو المحتمل/ العدو اللابد خلف الأشجار/ الصف الطويل من الاشجار تلقى اولى الطلقات/ وعلى الطاولة كانت الايدي تتحرك بحرية».
لم يبذل الشاعر الكثير من التخيل ليدرك ما سيحدث، كان تفسخ الحاضر ـــــ حاضرنا ـــــ والانهيار المتتالي لعناصره الروحية والمادية، يحرّضانه على كتابة شهادته عن لحظة ظلام طويلة عشناها ونعيشها، لكن إلى متى؟