بشير صفير
كل مرة تظهر تجربة ـــــ غنائية أو آلاتية ـــــ تستقي مادتها من جذور تراث الموسيقى الشرقية، تراودنا الأسئلة الآتية: هل هذا التراث غنيّ الى الحد الذي يدفع المواهب الموسيقية الى إعادة إحيائه؟ أم أنّ هناك إحساساً بمسؤولية تعريف الجيل الجديد إلى روائع أهملها، عبر إعادة قولبتها بأسلوب أقرب الى عصرنا؟ أم هناك حالة إفلاس دفعت بعضهم الى التعويل على نغمات تبقى جميلة كيفما تم تناولها؟
لا يسعنا الجزم في الإجابة عن هذه الاسئلة، لكن لا يمكننا إلا أن نثني على هذه التجارب متى أتت بعيدة عن الهدف التجاري والاستغلالي. وفي هذا الاطار، تندرج تجربة عازف البيانو اللبناني الشاب مارك أرنست ديب وباكورته المسجّلة DUENDE. تتمايز توليفة ديب عن غيرها بالشكل المستخدم للتعبير وتشبه المحاولات الأخرى بالمضمون والأهداف، إذ تعتمد على آلة واحدة تنفرد في مهمة إيصال مكوّنات العمل الأصلي. من جهة أخرى، يفرض عليه هذا الخيار غض الطرف عن مؤلفات شرقية تدخل في تركيبة مقامها أرباع الأصوات التي لا تصدرها آلة البيانو... فيتحول اهتمامه حكماً الى أخرى مبنيّة على مقامات شرقية بحت لكنّها لا تحمل ربع الصوت.
الموشح الأندلسي هو الموضوع الرئيس لأسطوانة DUENDE وهي تدلّ على حالة النشوة في ثقافة الفلامنكو تقابلها حالة الطرب في الموسيقى العربية. أما إذا أخذنا مادتها الموسيقية من وجهة نظر كلاسيكية، فيمكن تصنيفها في خانة فنّ الرابسودي (Rhapsody) القائم على توليفات لألحان من الفولكلور الشعبي، خصوصاً أنّ آلة البيانو هي التي استخدمت في عزفها. تماماً مثل تجارب المؤلف المجري فرانز ليست (1811ـــــ 1886) على الموسيقى الشعبية الهنغارية... أو مثل عمل آخر من تأليف عازف البيانو اللبناني العالمي وليد حوراني بعنوان Lebanese Rhapsody. وهو عبارة عن تتالي نغمات من الفولكلور اللبناني (أو بلاد الشام تحديداً) مولَّفة في مقطوعة واحدة. يقدّم ديب الموشّحات «نبّه الندمان صاح» (مجهول المصدر) و«طال عمر الليل عندي» (عمر البطش) و«لما بدا يتثنى» (شيخ عبد الرحيم المصلوب) اضافة الى «لونغا» جميل بك.
يعتمد ديب التلميح المتتالي الى النغمة الأساسية من خلال عزف أطرفها بين نوتات من خارجها، ويتبلور اللحن ليظهر بشكله المعروف مع انتهاء التلميحات، ثم يطور الجملة الموجهة عبر التنويع عليها (Variations) ويضيف جملاً جميلة متقابلة مع اللحن. كذلك يفرد مساحةً للارتجال الخارج عن المقام الأصلي مبدياً بالتالي علاقة بالموسيقى الكلاسيكية والجاز والموسيقى الشرقية. وتكمن نقطة قوة الاسطوانة عموماً في جزء من التنويعات تخرج عن المقامات الأصلية للمؤلفات (نهاوند وحجاز في الجزء الأكبر منها) والارتجالات التي توصل العزف الى قمة التعبير غير المقيّد. ولو أنّ نضجه يخونه أحياناً في ترجمة بعض الأحاسيس كما يجب.
أما نقطة الضعف، فتمكن في اليد اليسرى التي تعلق أحياناً بالإيقاع الذي لا ينبغي أن يكبّل هذا التناول الحرّ للمقطوعات. وهناك مشكلة تسبّبها اليد اليسرى أيضاً في العزف على المفاتيح المنخفضة، إذ يصعب تمييز ما تقوله أحياناً عندما تختلط النوتات وتشكّل أرضية صوتية واحدة ومتكتلة. وقد يعود ذلك الى البيانو نفسه أو التسجيل أو التركيز على الدواسة اليمنى للبيانو التي تطيل صوت النوتة بعد تحرير مفتاحها.
مارك إرنست ديب موهبة واعدة، تفتقر الى نضج لا يحقّقه الا الوقت، وننتظر منه اللجوء أكثر الى التقشّف والمينماليّة في تقديم ألحان معروفة الى هذا الحدّ وتلوينها بالارتجال، إذا أراد تكرار هذه التجربة.

مارك ارنست ديب ـــ Duende
إنتاج MOOZ RECORDS
توزيع INCOGNITO




لليوم الثاني على التوالي، يستضيف «مسرح بابل» هذا المساء في بيروت، ضمن برنامج «أماسي رمضانية»، الفنان العراقي نصير شمّة الذي يعدّ من أبرز عازفي العود والمؤلفين، من الجيل الجديد في العالم العربي.
مسرح بابل (الحمرا): 01،744034