ياسين عدنان
الإعلانات لا تتاجر بالبضائع والمنتجات، بل بالقيم أيضاً. هذا ما يخلص إليه سعيد بنكراد في «سيميائيات الصورة الإشهارية». يرصد الباحث المغربي الخطاب المزدوج الذي يجعل السلعة تتأرجح بين مظهرها المادي والقيم «الإيجابيّة» المسقطة عليها

وأنتم تتابعون هذه الأيام برامج رمضان ومسلسلاته على مختلف الفضائيات العربية، لا شك في أنّكم عانيتم الأمرّين من الغارات المتتالية التي تشنّها عليكم الإعلانات بوتيرة نكَّلت بمشاهدتكم وجعلت بعضكم يندم على اللحظة التي قرّر فيها متابعة هذا البرنامج أو ذاك المسلسل. إنّه قصف إعلاني شامل يتعرض له جمهور التلفزيونات العربية بمناسبة الشهر الفضيل. لكن فيما نتأفف نحن مستنكرين هذا الهجوم الكاسح، يحرص الدكتور سعيد بنكراد على متابعة الإعلانات بالكثير من الاهتمام.
سعيد بنكراد ليس مستثمراً في مجال الإعلان ولا بطلاً أولمبياً في التسوّق. إنّه باحث مغربي في السيميائيات، يشتغل هذه الأيام على الصورة الإشهارية (الدعائية)، وآخر مؤلفاته كتاب صدر عن «دار إفريقيا الشرق» بعنوان «سيميائيات الصورة الإشهارية: الإشهار والتمثّلات الثقافية». وقد حاول بنكراد أن يحيط بالاستراتيجية التي تعتمدها الرسالة الإشهارية في صياغة مضامينها وطريقة عرضها، مستندةًَ في ذلك إلى ازدواجية في الدلالة تجعل المنتوج يتأرجح بين مظهر مادي هو موضوع الاقتناء وهدف الإشهار، والكون القيمي الذي يختزنه هذا المنتوج ويُعدُّ رمزاً له. إنّ الاقتناءَ فعلٌ ثقافيٌ في المقام الأول. ووصلات الإعلان تعمل على تخليص المنتوج من بُعدِه النفعي وتحويله إلى حامل قيم المسرّة والمحبة والجمال والتصالح والطمأنينة والذكاء. الإشهار لا يتاجر في البضائع والمنتجات بل في القيم، تماماً مثل السيدة باتا (Bata) صاحبة شركة الأحذية الشهيرة التي كانت تردّد دائماً أنّها لا تتاجر في الأحذية، بل تبيعُ زبائنها أقداماً جميلة.
لذا، مصمم الوصلات الإشهارية لا يقف عند حدود رصد الحاجات الاستهلاكية المباشرة، بل يبحث في «اللاشعور الجماعي» عن الرغبات الدفينة لجمهوره ويستثمرها في عملية «الإقناع السري». إن الإقناع السري الذي يمارسه الإعلان عبر الإيحاء والاستعارة والتَّضمين هو «قرصنةٌ» تستند إلى رد فعل انفعالي يتم في غياب آليات التفكير النقدي، أي بعد أن يُعطِّل الإعلان لدى المشاهد أدوات الرقابة العقلية. فالرسالة الإشهارية لا تحتاج إلى تعداد مزايا المنتوج، بل تكتفي بعرض وضعية إنسانية تحيل على حالة مثلى تعمُّ فيها السعادة والرخاء. هكذا يتحول وجود المنتوج إلى رمز لهذه الحالة.
إن الرسالة الإشهارية تسعى أحياناً إلى الخلط بين الحالتين: حالة حيازة المنتوج والحالة النفسية المرافقة لها وتكون لها عادةً أبعادٌ جنسية. لنلاحظ الوصلات الإعلانية الخاصة بالسيارات مثلاً، إذ تُستعرَضُ خصائص السيارة من خلال تدقيقٍ لبعض أجزائها عبر إيماءات ذات بُعدٍ جنسي واضح: التركيز على آلة تغيير السرعة، وعلى كرسي السيارة الذي يتحول إلى أريكة. وتصاحب كل هذا حركات جسدية تصدر عن الحسناء التي تجلس بجوار السائق لتدعم المضمون السابق، وتضيف المزيد من جرعات الغواية إلى الحالة والمشهد. إن الإشهار _ يؤكد بنكراد _ لا يكتفي بالدعاية لمنتوج عبر تحديد خصائصه، بل يقوم بأخطر من ذلك. إنه يُنتج قيماً ويوجه أذواقاً ويخلق حاجات. وهو في كل ذلك بمنأى عن كل رقابة، فهو لا «يكذب» ولا «يقول الحقيقة» بل يكتفي بالعرض.
في «سيميائيات الصورة الإشهارية»، توقّف بنكراد عند الاستخدام الإشهاري للجسد. فالجسد يمتلك خريطة للحنان وأخرى للقسوة وثالثة للامبالاة. وصُنّاع الوصلات الإشهارية استثمروا هذه الخرائط إلى أقصى الحدود. إن الجسد، وجسد المرأة بالخصوص، طاقة تعبيرية هائلة وخزَّان للحنان. والحنان لا يُرى. إنه ما يبقى عندما يتخلّص الجسد من أبعاده الوظيفية. لهذا، فإن هذا الجسد ليس مجرد جسم، لكنّه «موضوع إيروسي». فما تقدمه الصورة في الإعلان ليس الجسد الذي نصادفه في الشارع والعمل، وليس حتى ذاك الذي نداعبه في السرير. إنه جسدٌ «مُصفَّى» نُزعت عنه كل المناطق النفعية ليصبح مُنتِجاً للاستيهامات. إنه لامرأةٍ تعيش في خيال المستهلك باعتبارها التجسيد الأقصى للفتنة والغواية والتناسق الجسدي. لهذا تأتي هذه المرأة إلى الصورة منفردةً متفرّدةً. هي تتحرك عادةً ضمن فضاءات مفتوحة مليئة بالإيحاءات الإيجابية: تتهادى وسط طبيعة غنَّاء كلها حيوية، وتركض وسط الحقول فاتحةً ذراعيها لتستقبل الحياة. تتجول وحيدة في الشوارع فتثير الإعجاب، أو تنكبُّ على كتاب في أحد أروقة الجامعة. إنّها تحرّك رأسها يميناً فتتطاير خصلات شعرها في الهواء ومعها قلوب المعجبين كما في إعلانات الشامبو أو تُدني الملعقة من ثغرها مُسبِلةً عينيها في التذاذ لا ندري هل مصدرُه «دانون» فقط أم هو من طبيعة أخرى.
وضمن كل هذه الأوضاع لا يتمُّ مدحُ خصائص المنتوج. المرأة أهمّ. بل هي المنتوج، ما دامت تُدرِج هذا الأخير ضمن غطاء إيحائي تنحفر معه صورته في اللاشعور مقرونةً بالغواية. إن الإشهار يعي تماماً أن الإنسان لا يُدلُّ في الصورة من خلال «إنسانيته»، بل عبر أشكال حضوره الجسدي (الزوايا، الخطوط، والنظرات). لهذا يحرص مصممو الوصلات الإشهارية على استخدام وجه المرأة وظلها وعينيها ومبسمها، وقوفها وجلوسها، وعلى استثمار الدلالات التي يمكن الحصول عليها من خلال التنويع في الوضعيات لرسم خطوط سيرورة دلالية بالغة الغنى.
هكذا، حلّل سعيد بنكراد بعض الوصلات الإعلانية الشهيرة التي يقدّمها التلفزيون المغربي، قبل أن يخلص إلى أن الغاية الإشهارية تبقى صريحة رغم كل شيء. إنها تبني إرسالياتها الدلالية، مهما أوغلت في الاستعارة، بهدف الترويج لبضائعها. يقول بنكراد: «هذه الغاية تُدمِّر في طريقها كل شيء. فلا هي ترمي إلى تهذيب النفوس، ولا هي ترغب في الترويج لقيم نبيلة، ولا هي من الدعاة إلى وعي حضاري جديد. إنها ترمي إلى شيء واحد هو البيع ولا شيء سوى البيع، ومن أجل ذلك تستثمر كل شيء، بما في ذلك الأحكام العنصرية المقيتة أو التصنيفات الجنسانية القائمة على إيديولوجيات ذكورية مهترئة».