strong>عثمان تزغارت
  • أميركـــا والأصوليّـــة: يـــوم انقلـــب السحـــر علـــى الساحـــر


  • يسلّط فيلم بيتر بيرغ نظرة غير مسبوقة إلى المجتمع السعودي المصاب بالفصام: كيف تسعى «المملكة» إلى محاربة الإرهاب، فيما تقوم على المرجعيات الدينية السلفيّة نفسها التي أنبتته؟ لكن تلك الآفة التي تفتك بالعرب، لا تعني هوليوود... إلا بحدود الضرر الذي ألحقته بأميركا!

    كيف تمكن مكافحة الإرهاب والتصدي للتطرف الجهادي ذي المرجعية السلفية، في مجتمع ودولة قائمين على الفكر السلفي ذاته؟ تلك هي المفارقة السعودية التي يتصدى لها السينمائي الأميركي بيتر بيرغ في فيلمه الجديد «المملكة» الذي يروي قصة فريق تحقيق مشترك أميركي ­­ـــــ سعودي يتولى مطاردة جماعة إرهابية قامت بتدبير تفجير استهدف رعايا أميركيين في السعودية.
    الفيلم مستوحى من التفجير الذي استهدف قاعدة الخُبر العسكرية الأميركية في منطقة الظهران، شمال شرق السعودية، عام 1996، وخلّف 19 قتيلاً و371 جريحاً. وقد كان التحقيق المشترك في خلفيات ذلك التفجير أول فرصة أتيحت لرجال مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) للتعاون مع أجهزة الأمن السعودية في مجال مكافحة الإرهاب. وكان ذلك قبل خمسة أعوام كاملة من هجمات 11 أيلول(سبتمبر) 2001.
    عاد بيرغ إلى أرشيف ذلك التحقيق ومحاضره، راصداً المصاعب والمقالب والمفارقات الكثيرة التي اكتنفت تلك التجربة الأولى من التعاون، بين محققين ينتمون إلى ثقافات ومرجعيات سياسية وتشريعية متناقضة بشكل جذري. ومنها استوحى فيلمه الذي أراد له أن يكون «أكثر من مجرد فيلم مغامرات هوليوودي». يقول المخرج الأميركي: «تفاديتُ أن يكون فيلماً وعظياً أو تعليمياًً. أردته متوازناً ومطابقاً لواقع المرحلة التي نعيش، بحيث يستطيع ابني البالغ الآن سبع سنوات أن يشاهده بعد 15 سنة، ليكوّن فكرة صحيحة عما كانت عليه الحياة بالنسبة إلى جيلنا...».
    تنطلق قصة الفيلم بتفجير إرهابي يستهدف عُمّالاً أميركيين (لاحظوا أنّهم ليسوا جنوداً، كما في تفجير الخُبر!) في مقر شركة نفط أميركية تدعى Oasis Gulf في العاصمة السعودية. يخلّف التفجير 100 قتيل و200 جريح، ما يشكّل ــــ بمواصفات ما قبل 11 أيلول 2001 ــــ صدمةً غير مسبوقة شديدة الوقع على الرأي العام الأميركي.
    إلا أنّ ردة الفعل الرسمية الأميركية تصطدم بتحفظات قوية من المسؤولين المترددين في التجاوب مع ضغوط المطالبين بـ«حق التدخل» للاقتصاص من الجناة، خشية أن يثير ذلك حساسية «الحليف السعودي» الذي قد يرى فيه تعدّياً على سيادة بلاده. حيال ذلك التخبّط السياسي، يأتي الخلاص عبر مبادرة شخصية لمسؤول في الـ«إف بي آي»، هو المحقّق الخاص رونالد فلوري (النجم جيمي فوكس)، إذ يقوم بالاتصال بصديق له في أجهزة الأمن السعودية، هو العقيد فارس (أشرف برهوم)، وينجح الاثنان في إقناع مسؤوليهما، بعد جهود ومحاولات عدة، بقبول تأليف فريق تحقيق مشترك أميركي ــــ سعودي لتعقّب الجماعة الإرهابية التي خطّطت لذلك الهجوم.
    إلى جانب الضابطين فلوري وفارس، يضم فريق التحقيق طبيبة (جنيفر غارنر) وقنّاصاً (كريس كوبر) أميركيين. وعلى مدى خمسة أيام، ينطلق الفريق في تعقّب المجموعة الإرهابية، إلى أن يتمكن من كشف مخبئها، فيشتبك معها ويقضي على أعضائها واحداً بعد الآخر.
    لكن فاعلية التحقيق المشترك، والانتصار السريع لأبطال الفيلم الذين يمثّلون الخير طبعاً على خصومهم الأشرار (لا تنس، عزيزي القارئ، أنّ الأمر يتعلّق بفيلم هوليوودي!) لم يمنعا الفيلم من رصد المصاعب والعقبات الكثيرة التي اعترضت المحققين، وتقديم نظرة غير مسبوقة في السينما الأميركية... من حيث تحليلها الموضوعي للواقع والسعودي. وهنا نذكر خصوصاً مسألة تركيزها على الازدواجية الصارخة التي يعانيها النظام السعودي الذي ينادي خطابه الرسمي بمكافحة الإرهاب والتصدي للتطرف، فيما يستخدم المرجعيات الدينية المتطرفة ذاتها لإحكام قبضته على المجتمع السعودي.
    ولعل الفيلم نجح في تسليط الضوء على التديّن الغالب على المجتمع السعودي بمختلف فئاته. لكنّه لم يسقط في النظرة التبسيطية التي تربط التديّن بالتطرف، واتصف بصفاء رؤية مدهشة بالنسبة إلى فيلم هوليوودي. الصورة التي ينقلها لنا بيتر بيرغ، هي أنّ غالبية المجتمع السعودي تجد نفسها بين نارين، أو شرّين متناقضين يكبحان كل مساعي الإصلاح والتطوّر، وكلاهما يستغلان مشاعر التديّن على طريقته ولمآربه الخاصة: الجماعات الدينية الراديكالية تسعى إلى تنمية التوجّهات الجهادية التي تغذي لدى المتدينين مشاعر التمرد والعنف. وفي الوقت ذاته، فإن النظام السعودي الذي يزعم محاربة الجماعات الجهادية الراديكالية، يستغلّ بدوره تديّن المجتمع لإحكام قبضته عليه، باللجوء إلى الرؤى السلفية ذاتها التي يستند إليها الإرهابيون.
    لكن الفيلم يلاحظ أن النظام لا يروّج لتلك الرؤى في طابعها التمردي الجهادي، بل يجعل منها بالعكس سلاحاً قمعياً مسلطاً على الشعب السعودي لتكريس التبعية والطاعة العمياء. هكذا يضيق على الحريات باسم الأرثوذوكسية الدينية، قاطعاً دابر أي تطلّع تحديثي أو إصلاحي للمجتمع السعودي، لأن ذلك سيقود حتماً إلى إصلاح النظام وتحديثه...
    ولا يخلو «المملكة» من بعض الكليشيهات الهوليوودية، مثل التركيز المبالغ فيه على مشاهد مطوّلة تلتقط فيها الكاميرا صور سعوديين متدينين يوقفون سياراتهم على حوافّ الطرق لأداء الصلاة... وينظر أبطال الفيلم الأميركيون بعين الريبة، إلى تلك الظاهرة الغريبة أو العدائية. كما أنّ معظم الشخصيات السعودية التي ظهرت في الفيلم، بدت إما باهتة وعابرة... أو سلبية ومتطرفة، باستثناء شخصية إيجابية وحيدة تتمثل في الضابط المتعاون مع فريق التحقيق الأميركي، العقيد فارس، ما يعطي الانطباع بأن الحداثة والتقدّم والاعتدال هي رديف لحبّ أميركا والتعاون معها.
    على الرغم من تلك المآخذ، فإن فيلم بيتر بيرغ الذي يقدّم نظرة تشريحية إلى الواقع السعودي، يستحق المشاهدة. إنه يضع اليد على الجرح المزمن المتمثل في انفصام وازدواجيّة النظام السعودي الذي يعد حليفاً استراتيجياً لأميركا، سواء على الصعيد السياسي أو في الحرب المعلنة على الإرهاب... فيما يستمر في الوقت ذاته بأداء دور «حاضنة الأفاعي» عبر احتضان الفكر السلفي في أشكاله الأكثر ظلامية وتزمّتاً وانغلاقاً.