«ما دلّني أحدٌ عليّ/ أنا الدليلُ، أنا الدليلُ إليّ/ بينَ البحرِ والصحراء/ من لغتي ولدتُ/ على طريقِ الهند/ بينَ قبيليتين صغيرتين عليهما/ قمرُ الدياناتِ القديمة، والسلامُ المستحيل...». أوراقه بيده، يقف عند مقدّمة المسرح ويقرأ. بصوته المعهود الذي تشوبه لمسة تعب. أم لعلّه الصفاء؟ يقرأ، بالعربيّة طبعاً، كمن يقدّم أوراق اعتماده لجمهور نهم، كأنما على رؤوسه الطير في تلك الصالة الخاصة والدافئة، المنذورة لمتعة الروح ولذّة الكلمات... حين تكرّم فرنسا محمود درويش، أي الأمكنة يليق بالاحتفال أكثر من «بيت الشعر»، في حيّ لي هال الباريسي ـــــ معبر موليير؟ هنا تحلّق من حوله على الخشبة، مساءي الخميس والجمعة، عدد من الشعراء الفرنسيين: أندريه فيلتير (مدير السلسلة الشعريّة الشهيرة في دار «غاليمار»)، شارل جوليت وزينو بيانو. وعازفة الكونترباص هيلين لاباريار، الممثلة والمخرجة المسرحيّة سيسيل غارسيا ــــ فوجيل، والممثلة السوريّة هالة عمران. تناوب هؤلاء على قصائد درويش بالعربيّة تارة، وبالفرنسيّة غالباً، ليقدّموا إحدى أهم التجارب الشعريّة العربية المعاصرة في لغة موليير (الترجمات كلّها تحمل توقيع إلياس صنبر)، ضمن إطار «مهرجان الخريف» الذي خصص جزءاً من برنامجه هذا العام للعالم العربي والشرق الأوسط، مسرحاً وشعراً وتجهيزاً وعروضاً مختلفة.
الأمسية المضبوطة بعناية (أشرف عليها مشهديّاً كلود غير)، اشتملت على باقة من قصائد محمود درويش الحديثة نسبياً من «لماذا تركت الحصان وحيداً» (١٩٩٥) إلى «الجداريّة» (٢٠٠٠). وكان شركاء هذا الطقس الشعري يتعاقبون على الميكروفون أزواجاً، كل يترك على كلمات الشاعر ومجازه، شيئاً من نفَسه وإيقاعه، نبرات صوته وطريقته في الأداء. وأحياناً تتدخل لاباريار بارتجالاتها على الكونترباص. قرأ درويش بنفسه المقاطع الأكثر تكثيفاً لتجربته، من «عندما يبتعد» (سلّم على بيتنا يا غريب/ فناجين قهوتنا لا تزال على حالها. هل تشمّ أصابعنا فوقها؟) إلى المقاطع الأكثر حميميّة والأقلّ مباشرة سياسيّة في الـ«جداريّة» («رأيت أبي عائداً من الحج (...) رأيت شباباً مغاربة يلعبون الكرة»). استحضر أصدقاءه: أبا فراس والمعرّي، رينيه شار وباول تسيلان. وختم بقصيدة «غيمة من سدوم». وكان طيفا الشاعر برنار نويل والمسرحي ــــ الشاعر أرمان غاتي، يحومان في الجوار... قدّم كل منهما «مساهمة صوتيّة»... ولفت غاتي ابن المقاومة الفرنسيّة، في تحيّته إلى شاعر الجرح الفلسطيني، بأداء عصبي يذكّر بأنطونان آرتو.