الكاتبة البريطانيّة تفوز بنوبل للآداب ٢٠٠٧




بيار أبي صعب

فوزها «فاجأ الجميع. فصاحبة «المفكرة الذهبيّة” أكثر راديكاليّة من نادين غورديمير وتوني موريسون، وأكثر فضائحيّة من إلفريد يلينيك... تعليقها الأوّل على الخبر كان: «إنّهم لا يحبونني!». دوريس ليسينغ التي تعتبر من رموز اليسار والحركة النسويّة، «عاشت كثيراً» وفازت بـ «نوبل»
على عتبة الثامنة والثمانين


هكذا إذاً. نوبل من نصيب السيدة الإنكليزيّة العجوز. «عجوز» لأنّها شاهدة على القرن وتمزّقاته، من الحرب الأولى إلى سقوط جدار برلين... من زمن الأمبراطوريّة البريطانيّة العظمى إلى عهد طوني بلير الذي تنعته بـ«الرجل الصغير»! و«إنكليزيّة»، كأنّها طالعة من أحد بورتريهات القرن ١٩. المظهر واللفظ وطريقة الحياة، النظرة القاسية التي تلتمع فجأة بذلك البريق الساخر... وأيضاً كل المخزون الثقافي المتسرّب من لغة تنتمي الى عصر آخر. إنّها وريثة العالم القديم الذي ما انفكّت تشهد على انهياره، عبر كتابة واقعيّة مشرّعة على الخيال العلمي. كل كلمة كتبتها سهم مسدّد إلى المجتمع التقليدي الذي تنحدر منه.
الكاتبة البريطانيّة دوريس ليسينغ التي ستبلغ الثامنة والثمانين في ٢٢ تشرين الأوّل (أكتوبر)، هي صاحبة «نوبل للآداب» ٢٠٠٧، تلتحق بالمشاغبات اللواتي سبقنها إلى هذا النادي. لكنّ صاحبة «المفكّرة الذهبيّة» مشعلة حرائق قطعت جذرياً مع «اللائق سياسيّاً»، بما يجعلها غير قابلة للتصنيف حتّى مع نادين غورديمير (جنوب أفريقيا ــــ نوبل ١٩٩١)، وتوني موريسون (الولايات المتحدة ـــــ ١٩٩٣)... كما يصعب إدراجها في خانة الفضائحيّة المتعمّدة التي اقترنت بها إلفريد يلينيك (النمسا ــــ ٢٠٠٤).
ليسينغ فاضحة بلا فضائح، ومناضلة بلا شعار. لا تعرف سوى الأدب... ولا تقبل بأي تصنيف آخر. كتبت ضدّ العنصريّة، والاستعمار، والرأسماليّة، والجرائم التي ترتكب بحق البيئة. خاضت معارك ضارية ضد الذكوريّة، وعبّرت عن تطلعات الحركة النسويّة في مرحلة مفصليّة من تاريخها. وهي محاربة لا تتعب، ضدّ كل أشكال الدوغمائيّة... لكن حذار من اعتبارها كاتبة نسويّة أو ملتزمة. إنّها كاتبة فقط.
تأتيها «نوبل» في وقت عبّرت فيه عن تعبها، واعتزامها الانسحاب ــــ بعد رواية أخيرة قالت إنّها تعتزم كتابتها ــــ من الساحة الأدبية التي أمعنت في خلخلتها منذ نصف قرن تقريباً: منذ وصلت المرأة الشابة إلى لندن، في هجرتها العكسيّة من المستعمرات السابقة، وفي حقيبتها مخطوطة مغمّسة بعذاب سنواتها الثلاثين، على صفحتها الأولى ٣ كلمات: «العشب يغنّي».
ها هي الكاتبة الشهيرة ملزمة بدخول دائرة الضوء التي تكره، هي التي رفضت الترويج لروايتها الأخيرة «الشق» (٢٠٠٧)، وفضّلت أن تبقى مطمئنة بين قطّيها، وسط سكينة بيتها اللندني في غرب هامستد. هي التي رفضت عرض الملكة بمنحها لقب «سيّدة الأمبراطوريّة البريطانيّة». ردّت يومذاك على صاحبة الجلالة، بأن «الأمبراطوريّة لم تعد موجودة».
حياة دوريس ليسينغ رواية بحد ذاتها... وقد كتبتها وأعادت كتابتها بغزارة، وبقدرة خارقة على خلق الشخصيات ورسم ملامحها الدقيقة. لقد غرفت من تلك الحياة، مادة أعمالها التي بلغت الخمسين. ولدت في كرمنشاه الفارسيّة، من أبوين إنكليزيين. الأب موظّف بنك هجّ من المقبرة الكبيرة في أوروبا ، بعد أن فقد ساقه في الحرب، والأم ممرضة ماهرة تركت كل شيء لتتبع زوجها، بعد أن فقدت الرجل الذي تحبّه.
كانت دوريس ماي تايلر في السادسة حين انتقلت العائلة عام ١٩٢٥ إلى جنوب روديسيا (زيمبابواي حالياً). في تلك المستعمرة البريطانية كان الأب يحلم بالنساء السمر، وبثروة لن يجمعها أبداً، من زراعة الذرة والبن والحبوب. نشأت بين مرارته التي لا تلازم المحاربين القدامى، وقسوة الأم المهووسة بالنظام والنظافة واحترام التقاليد... ربطتها بأمّهما علاقة صداميّة، علاقة رفض ونفور تذكّر بزميلتها النمسويّة يلينيك. صار عزاؤها الطبيعة، تهرب إليها مع أخيها هاري... والكتب التي تستقدمها الأم من لندن. هكذا ارتادت أعمال ديكنسون وستيفنسون، ونشأت صداقة حميمة بينها وبين أوليفر تويست. وهكذا اكتشفت أن هناك حياة أخرى، غير تلك التي تخنقها في الواقع... وقطعت دوريس الصغيرة عهداً على نفسها: ألّا تشبه والديها أبداً!
هذه التفاصيل توردها في سيرتها الشخصيّة «تحت جلدي» (١٩٩٥). إنّها السنوات الحاسمة التي ستهجر فيها مدرسة الراهبات في الثانية عشرة، ثم تهجر بيت أهلها في الخامسة عشرة لتعمل مساعدة ممرضة، وتقرأ الكتب التي تستعيرها من ربّ العمل. إنّها أيضاً سنوات الضياع والحريّة والحب والجنس والإدمان. في الثامنة عشرة انتقلت إلى سالزبوري، عاصمة روديسيا الجنوبيّة، لتعمل بدّالة هاتف، وتتزوّج من أحد زملائها في العام التالي. هنا اختلطت بمجموعات سياسيّة وأدبيّة، تضمّ هاربين من جحيم أوروبا التي كانت دخلت حرباً ثانية، وتحديداً من ألمانيا النازيّة. بين هؤلاء غوتفريد ليسينغ الذي سيصبح زوجها الثاني. منحها غوتفريد اسمه وأفكاره الشيوعيّة... وطفلاً ثالثاً، ستأخذه معها، حين تضيق ذرعاً بنظام التمييز العنصري، ميممة شطر القارة القديمة.
الحياة الجديدة في لندن مغرية وغنية، لكنّها لن تكون سهلة. استعادتها في جزء ثان من سيرتها يغطي الخمسينات بعنوان «السير في الظلّ» (١٩٩٩). تروي المدينة أيام الحرب الباردة، سنوات الحرمان والفوران الأدبي والثقافي والسياسي، والتزامها الشيوعي، ثم موت الأيديولوجيات والأوهام. خطواتها الأولى في عالم الأدب. كيف انتقلت بين المساكن البائسة، وذاقت طعم الحرمان. لكن كل ذلك لن يقف في وجه حلمها: أن تصير كاتبة. في أجواء سوهو البوهيميّة ستقوم بخطواتها الأولى. رواية «العشب يغنّي» (١٩٥٠) عن التمييز العنصري في روديسيا، قدّمتها للوسط الأدبي، لكن لا بد من انتظار ١٢ سنة حتّى تصدر الرواية التي ستصنع شهرتها: «المفكّرة الذهبيّة» (١٩٦٢) ستعتبر المرجع الأوّل للحركة النسويّة لسنوات طوال.
الكاتبة ترفض تلك الصفة... بل إن دوريس ليسينغ صدمت الرأي العام العالمي، خلال لقاء نظمه معرض كتاب أدنبرة، صيف ٢٠٠١، حين راحت تنتقد مبالغات النسويّة، ونزعتها الأصوليّة والمحافظة... كما انتقدت الإرهاب الذي بات يمارس على الرجل، حتّى صار هو الضحيّة الفعليّة. في اليوم التالي ظهر الخبر على الصفحة الأولى لصحيفة «الغارديان»!
هكذا هي دوريس ليسينغ، تأتي دائماً من حيث لا يتوقّع الناس. إنّها، كما وصفها بيان الجائزة: «حكواتية ملحميّة للتجربة النسائيّة التي روتها بزخم وشك ورؤيويّة، غائرةً في شرخ الحضارة المقسومة”. من الإرهابية» (١٩٨٦) عن بورجوازيّة ضجرت من حياتها والتحقت بصفوف «الجيش الإيرلندي الثوري»، إلى «الجدّات» (١٩٨٥) عن سيدتين ستينيتين كل منهما تعيش قصّة حب مع ابن الأخرى... مروراً بـ«تقرير عن النزول إلى الجحيم» (١٩٧١)، و«مذكرات ناج» (١٩٧٤)، و«أرشيف كانوبوس في آرغوس» (٧٩ - ٨٣)، و«الحب مرّة أخرى» (١٩٩٦)، وسلسلة «أطفال العنف» وسلسلة «مارتا كويست»، وصولاً إلى «أعذب الأحلام» (٢٠٠١) التي عادت فيها إلى ستيناتها في قالب روائي.
آخر أعمالها «الشق» يجمع بين النبرة النقديّة للنسويّة، وأسلوب الخرافة العلميّة التي تبلغ مراتب سرياليّة، وقد انقسم حوله الجمهور: على صخرة خرافيّة تعيش مجموعة نساء، يحملن من عناصر الطبيعة ويلدن إناثاً. أما الذكور، فمصدر ذعر وقرف، يتمّ رميهم في الخلاء، لتأتي النسور وتنقذ من نجا منهم فترضعه الظبية. هكذا تتشكل قبيلة المحاربين في مواجهة قبيلة الحالمات!
دوريس ليسينغ امرأة بلا أوهام. قادرة على تصوير ضياع العالم، بلغة باردة. «الخرافة العلميّة تصبح بين يديها مجاز شعري» كتب جون كلوت في «موسوعة الخرافة العلميّة». إنّها المرأة التي تركت كلّ شيء، الأهل والمدن والأيديولوجيات. اكتشفت الصوفية من خلال إدريس شاه الذي ألهمها في الستينات. جاءتها نوبل متأخرة، وكانت تتهيأ للانسحاب. ورغم رفضها أي تصنيف، ما زال أهل اليسار يعتبرونها أيقونتهم وضميرهم!



سيرة

دوريس ليسينغ أحد أبرز الكتّاب البريطانيين بعد الحرب العالميّة الثانية. عدّت نموذج الكاتب الملتزم القضايا الإنسانية المناهضة للاستعمار والعنصرية. أيقونة «التيّار النسوي» رغم اعتراضها الشديد على ذلك التصنيف، ولدت في بلاد فارس عام 1919 من والدين بريطانيين، انتقلت مع عائلتها إلى زيمبابوي لتعيش حياة الفقر في مزرعة والدها حيث ستفرض عليها والدتها نظاماً صارماً. تركت المدرسة في المراهقة وشاركت في تأسيس حزب يساري مناهض للعنصرية في زيمبابوي. تزوّجت مرّتين وانضمت إلى الحزب الشيوعي ثم تركته عام 1954 بعدما «تبدّدت أوهامها». رحلت إلى لندن حيث نشرت روايتها الأولى «العشب يغني» (1950) وقد تناولت فيها خواء المجتمع الأبيض الاستعماري. أمّا سلسلة كتب «أولاد العنف» (1952 ــــ 1969)، فقد ارتكزت على سيرتها الذاتية ورفضها لدور المرأة التقليدي. إلا أن «المفكّرة الذهبية» (1962) هي الرواية التي ستجعل من ليسينغ إحدى أيقونات التيّار النسوي في القرن العشرين. الكاتبة التي شُبّهت بالفرنسية سيمون دو بوفوار، تقيم اليوم في لندن مع قططها. من أنجح أعمالها «العودة إلى الوطن» (1957) و«الإرهابيّة» (1986). آخر كتبها صدر هذا العام بعنوان «الشق»، وانقسم حوله النقاد والقرّاء بحدّة.



دوريس ليسينغ هي المرأة الرقم 11 التي تنال جائزة نوبل منذ عام 1901. وقد علّقت على فوزها بالقول: «أستطيع القول إنّهم لا يحبّونني، وإلا لفزتُ بالجائزة منذ وقت طويل». وأضافت أنّ المؤسسة البريطانية لم تغفر لها أبداً مغازلتها للاشتراكية خلال سنوات ما بعد الحرب، وآراءها الحاسمة في القضايا النسائية والسياسية.
وخلصت ليسينغ: «نعيش اليوم حالة من التفسّخ، بعدما حسب الناس أنّ العالم سيكون أفضل. أنا تخلّصتُ تماماً من الأوهام ولم أعد أؤمن بالمدينة الفاضلة».