strong>عثمان تزغارت
أن تكـــون جنديّـــاً فـي العشريــــن بيـــن أنــقاض غروزنـــي
بعد الأيام الأخيرة من حياة لينين، والمفترق الحاسم في مسيرة الإمبراطور هيروهيتو... ها هو السينمائي الروسي الإشكالي يرصد خراب الروح الروسية من خلال مغامرات جدّة أحد الجنود في جحيم الشيشان. فيلم عن الحرب بلا مشاهد قتال، حيث البطولة الافتراضيّة لمدينة غروزني تحت الأنقاض

عندما قدّم ألكسندر سوخوروف فيلمه الجديد «ألكسندرا» في «مهرجان كان» الأخير، انقسمت القاعة ـــــ كالعادة بالنسبة إلى أعماله ـــــ بين مؤيد ومستهجن. هذا السينمائي الروسي الكبير الذي يتناول هذه المرّة من منظور إشكالي، مرحلة حساسة من التاريخ الروسي الراهن (حرب الشيشان)، لم يكفّ عن إثارة الجدل في الغرب، منذ أن قدّم في «كان» شريطه الشهير «برج الثور» (2001)، الذي صوّر في قالب فني آسر تفاصيل الأيام الأخيرة من حياة لينين.
ظلّ الجدل النقدي يرافق كل فيلم جديد يقدّمه سوخوروف، على رغم الشهرة العالمية التي اكتسبها، وخصوصاً منذ رائعته «المركب الروسي» (2002) التي ستبقى في ذاكرة عشّاق الفن السابع، بوصفها حتى الآن التجربة الوحيدة لفيلمه الذي يتألف من مشهد واحد طوله 96 دقيقة.
لقد اعتاد سوخوروف إبهار الجمهور والنقّاد بخياراته الفنية المجدّدة، ومنجزاته التقنية والأسلوبية التي جعلته يقفز بسرعة إلى مصاف كبار صنّاع السينما عبر العالم. لكنّ مضامين أفلامه تأتي دوماً صادمة وخارجة على المألوف، لتنقسم الآراء وتتضارب المواقف بشأنها... إذ لا يكاد يمرّ عمل جديد له، من دون إثارة زوابع بلا نهاية من الانتقادات والجدل.
كثيرون لم يستوعبوا لماذا طرح سوخوروف كل سيرة لينين جانباً في «برج الثور»، ليقدّمه عجوزاً مريضاً على حافة الموت، كل متعته في الحياة القراءة والتجول في الريف برفقة زوجته. بعضهم رأى في ذلك محاولة لتلميع صورة الزعيم البولشفيكي، عبر إظهاره في صورة إنسانية مؤثرة. والشيء ذاته بالنسبة إلى الإمبراطور الياباني هيروهيتو الذي استعاد سوخوروف جانباً من سيرته في «الشمس» (2005)، فاختار أن يسلّط الضوء على المرحلة الأخيرة من حياته بالذات، بعدما أطلق نداءه الشهير للجنود اليابانيين بالكف عن القتال في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تنازل عن مكانته الإلهية ـــــ في الثقافة اليابانيّة القديمة ـــــ ليصبح واحداً من أفراد الشعب البسيط. وإذا بشعبيته ترتفع، ليصبح رمزاً للوحدة الوطنية اليابانية.
في هذين الفيلمين، كما في «المركب الروسي» الذي استحضر فيه أبرز شخوص التاريخ الروسي على مدى 400 سنة، كان سوخوروف حريصاً دوماً على اختيار مراحل إشكالية في حياة كل الشخصيات التي يقدّمها، منطلقاً منها لإثارة السؤال الوجودي نفسه الذي يسكن أعماله كلها: ما الذي يبقى من إنسانية الإنسان، حين ينهار كل شيء حوله، فيفقد مجده وجبروته (إمبراطور اليابان في «شمس»)، أو يهن جسده وتتراجع قدراته الذهنية بفعل الشيخوخة (لينين في «برج الثور»)، أو يخسر روحه وقيمه بفعل توالي الحروب والمجاعات والمآسي (الضمير الجمعي في «المركب الروسي»)؟
من يغفل هذه الخصوصية التي تطبع جميع أعمال سوخوروف، يصاب حتماً بالصدمة، حين يشاهد فيلمه الأخير «ألكسندرا» الذي تدور أحداثه في أتون الحرب الشيشانية، لكنّه لا يتضمن أي معارك أو مشاهد اقتتال.
تساءل النقاد والصحافيون، بعد مشاهدة الفيلم في «كان»: كيف يمكن تصوير فيلم عن إحدى أبشع الحروب المعاصرة، من دون إبراز طابعها الدموي؟ ودون إدانة صريحة للسياسة الهمجية التي يعتمدها الرئيس بوتين في مواجهة المتمردين الشيشان؟ واكتفى سوخوروف بالإجابة: «أنا سينمائي، ولستُ صحافياً أو مناضلاً سياسياً». وهي إجابة ملتبسة جعلت هذا الجدل يتجدّد مع نزول الفيلم إلى القاعات الأوروبية، خلال الأسبوع الماضي، حيث اتُّهم سوخوروف بالانسياق وراء الشوفينية القومية الروسية... بل إن بعضهم رأى في شريط سوخوروف التوثيقي عن سولجنستين الذي أُنجز بالتزامن مع هذا الفيلم، «دليلاً» على شوفينيته!
وقد وصل الأمر ببعض الصحف الأوروبية حد اتهام سوخوروف بالانتماء إلى موجة جديدة من «سينما البروباغندا» الروسية، الخاضعة لسلطة بوتين، على غرار ما كان سائداً في الفترة السوفياتية! الشيء الذي يتنافى تماماً مع واقع السينما الروسية، وما تتمتع به اليوم من دينامية وتنوع وشجاعة في تناول مختلف القضايا الإشكالية، بما فيها حرب الشيشان ذاتها.
بعضهم أعاب على سوخوروف أيضاً أنّه صوّر فيلمه هذا في العاصمة الشيشانية، في حماية أجهزة الأمن الروسية. لكن هؤلاء فاتهم أن إصرار سوخوروف على تصوير فيلمه بشكل فعلي في غروزني، كان خياراً شجاعاً بحد ذاته. فالحرب الدموية التي تدور رحاها في الشيشان، جعلت السينمائيين كافةً، الروس منهم والأجانب، ممن أخرجوا أفلاماً عن هذه الحرب، يفضّلون تصويرها في الجمهوريات القوقازية المجاورة. وحده سوخوروف أصرّ على التصوير في غروزني. وكان من المستحيل لفريق تصوير روسي أن يقيم ويعمل في العاصمة الشيشانية، من دون حراسة أمنية روسية مشدّدة.
لم يكن الأمر مجرد نزوة فنية إذاً، لسوخوروف المعروف أنّه سينمائي غريب الأطوار. بل شكّلت مشاهد الدمار الشامل في غروزني «شخصيّة» مركزية في الفيلم، وجاء ذلك عبر لعبة مرايا محبكة بإتقان، جعلت من الدمار الخارجي الذي أصاب المباني والجسور والطرق انعكاساً لخراب الروح لدى الجنود الروس الشباب الذين زُجّ بهم في تلك الحرب الدموية.
والفيلم بذلك لا يؤيد سياسة الرئيس بوتين، بل يدينها، بوصفها سياسة مدمّرة ليس للشيشانيين فحسب، بل للروس أنفسهم. كالعادة في كل أفلامه، يحاول سوخوروف هنا أن يسبر أغوار الذات البشرية، متسائلاً ما الذي يبقى من إنسانية جنود في العشرينات من العمر يجدون أنفسهم، من دون أي تأهيل أو تحضير مسبق، في أتون حرب بالغة الدموية؟
هذا السؤال يطرحه سوخوروف من خلال شخصيّة ألكسندرا، جدّة أحد هؤلاء الجنود (تؤدي دورها نجمة الغناء الأوبرالي الروسي غالينا فيشنيفسكايا التي تخوض هنا في الثمانين من العمر أول تجربة لها في التمثيل السينمائي). تسافر ألكسندرا إلى غروزني لزيارة حفيدها الجندي، وتقضي ثلاثة أيام في المعسكر المغلق الذي يعيش فيه هو ورفاقه الجنود في جو من التوتر والرعب الدائم. وإذا بها تنتفض على ذلك الوضع، وتغامر بالخروج لزيارة سوق شعبي محلي، حيث تتعرف إلى جدة شيشانية في سنها، تدعوها إلى تناول الشاي عندها في البيت، في نوع من المصالحة الرمزية. وتتفق الجدّتان بأنه حان الأوان لاستعادة قيم السلام والتعايش والاحترام المتبادل التي سادت منذ القدم بين الروس والشعوب القوقازية.
فيلم سوخوروف الجديد، يطرح السؤال الأخلاقي نفسه الذي يشغل بعض السينما الإسرائيليّة التقدّميّة: كيف نروي التاريخ من وجهة نظر الضحيّة؟ كيف نصوّر الصدع الحضاري في معسكر الجلاد؟