خليل صويلح
صار «علكة» في بيروت، ومقهى إنترنت في رام الله... اختزلت بسببه صلاة التراويح في دمشق، وأدى إلى حظر التجوّل في كل مكان. «باب الحارة» الذي يعاد على LBC، وتحضّر MBC لجزئه الثالث، هل يستحقّ هذا الضجيج؟

لن يجد الناقد تفسيراً مُقنعاً ومنطقياً للإقبال المنقطع النظير على متابعة الجزء الثاني من مسلسل «باب الحارة» للمخرج بسام الملا. كلّ الإشارات تدلّ على استئثاره بأعلى نسبة مشاهدة بين المسلسلات السورية التي عُرضت خلال موسم رمضان ليس محلياً فحسب، بل عربياً أيضاً. إذ كانت الشوارع تخلو من المارة في موعد عرض المسلسل، في أكثر من مدينة عربية. وصارت الحياة اليومية تجري وفق موعد عرضه: قبل «باب الحارة»، وبعد «باب الحارة». كما أن «العربية»، وهي محطة إخبارية بامتياز، أفردت خبراً عاجلاً لإعلان إنتاج جزء ثالث من المسلسل لمصلحة شقيقتها «أم بي سي» حصرياً، بعد استضافتها بطلي العمل عباس النوري وسامر المصري، وترتيب مشهد إضافي في نهاية الحلقة الأخيرة بين الممثلين المذكورين، يؤكد على أحداث جديدة في الجزء الثالث. وفي خطوة لافتة، كرّم «مجمع كفتارو الديني» أسرة المسلسل، وقال الشيخ صلاح الدين كفتارو إنّ العمل يحضّ على العودة إلى «الأصالة ومكارم الأخلاق». وأضاف أنّ المجتمع الديني في دمشق كان يختزل صلاة التراويح لمتابعة المسلسل.
ولعلّ المخرج بسام الملا فوجئ حقاً بنجاح عمله، إذ سبق أن أعلن أنه ضجر من ارتباط توقيعه كمخرج بأعمال البيئة الشامية، وأنه بصدد إخراج عمل معاصر. لكن نجاح هذا العمل جعله يتراجع عن أقواله السابقة.
أصدقاء «باب الحارة» على شبكة الإنترنت تجاوزوا الآلاف، ودافعوا ببسالة عن المسلسل. كما وجهوا شتائم مقذعة إلى نقاد تجرأوا على نقد المسلسل، ووصل الأمر ببعضهم إلى تكفير هؤلاء النقاد وتهديدهم بـ«التهلكة وبئس المصير» (كاتب هذه السطور واحد منهم)!
لكن ما سبب كل هذه الحماسة لعمل بسيط ينهض على مبررات، هي في أحسن الأحوال، ليست درامية، بل أحداث يومية في حارة شعبية مغلقة على ذاتها، ومناهضة للعولمة، حتى على مستوى الحارة المجاورة، «حارة أبو النار»؟
لعلّ الشحنة الميلودرامية هي أحد أسباب تعلّق المشاهد بهذا العمل، فالمشاهد العربي عموماً يُقبل على الميلودراما حتى لو كانت هندية في مواصفاتها. من جهة ثانية، يقوم العمل على أكثر من حامل أخلاقي من طريق بثّ قيم الشهامة والنخوة في نسيج الأحداث، وإعادة إنتاج ماضٍ مثقل بالحنين إلى دمشق أليفة وعصية على الغرباء، بمفردات لها وقعها في ذاكرة المشاهد. وهذا ما نجده في أغنية الشارة التي تختزل عناصر العمل وتضفرها في جديلة واحدة، إذ تستعاد شجرة النارنج وقدرية التاريخ في تمجيد القيم الأصيلة. المسافة بين تلك القيم الراسخة في تفكير شخصيات العمل، وقيم اليوم المضادة، سحبت ذاكرة المشاهد إلى بساط الماضي المجيد بكل قيمه (الرائعة؟). وكأن الحداثة التي اقتحمت الحارة، وفتحت بابها على الأبواب الأخرى، هي من أطاح ضفيرة القوة والتضامن والتكافل الاجتماعي. هكذا صارت عناصر التخلف بالمقياس العصري ميزة إيجابية. وكأن المشاهد فقد الأمل بكل برامج النهضة والتنوير التي طرحها مفكرون وأحزاب على مدار عقود ما بعد الاستقلال، من دون أن تُنفّذ كالعدالة الاجتماعية والمساواة، فأخذه الحنين إلى تلك الصورة المتحفية والفولكلورية بديلاً من مآسي اليوم ومكابداته.
«باب الحارة» على بساطة مفرداته وسذاجتها، يطرح مقولات رمزية أيضاً، فالسلطة الرسمية (المخفر) فاسدة، ولا يهمها حال الصفاء بين أهالي الحارة. لكن مجلس الأعضاء هو من يحلّ مشكلات الحارة، مهما كانت شخصية وعابرة، وهو من يثأر للقيم إذا تعرضت لتشويه ما. هكذا فقد «أبو عصام» موقعه الاجتماعي بعد ممارسات خاطئة (رفع الحصانة عنه)، رغم محاولاته في تحسين صورته. ولن ترمم أخطاؤه إلا بعد أفعال خيرة قام بها لمصلحة الحارة، بينها دوره السري في حركة مقاومة المستعمر الفرنسي أولاً، والإنكليزي في فلسطين لاحقاً.
لكن هذا الخط في العمل، بدا ناشزاً وأكبر من مقولاته العامة. كيف لحارة تناصب العداء حارة مجاورة، أن تهتم بقضايا أبعد مثل التضامن مع ثوار فلسطين؟ وإن حاول العمل إثارة صحوة لدى «أبو النار»، والمشاركة في فكّ الحصار عن «أبو شهاب» وجماعته من كمين إنكليزي، وقعوا فيه أثناء نقل السلاح إلى فلسطين!
بدت صورة المرأة في العمل أمينة للمناخات التي كانت تعيشها المرأة الدمشقية الشعبية في عشرينيات القرن المنصرم، فهي امرأة مستكينة لقدرها، ليس أمامها إلا الطاعة للرجل، فيما غابت صورتها الأخرى... في الفترة التي يقترحها العمل لطالما شاركت المرأة في التظاهرات، لكن انتصار الصورة الأولى في إعادة إنتاجها مرة أخرى، يبدو أنها لاقت هوى لدى مشاهد اليوم، إذ تتيح أمامه استعادة عصر الحريم و«تقبرني ابن عمي» التي افتقدها رجل اليوم في ظل المكاسب النسائية الجديدة والحركات النسوية المتصاعدة، في حركة التفاف ذكورية تسعى إلى صورة مشتهاة لم تعد محققة، في بيت عربي تتوسطه بحرة وشجرة ياسمين وغرف متعددة، ونساء مستكينات.
هكذا يزيح «باب الحارة» القيم الاستهلاكية التي تضغط على مشاهد اليوم، ويقترح عليه العيش في حارة تتيح له الألفة المفتقدة، مع أكثر من زوجة تتمنى رضاه، مرفقة ببوسة يد و«حاضر ابن عمي»، حتى لو كان ابن العم حلاقاً في طور التمرين!
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن LBC تبدأ هذا المساء عرض الجزء الأول من «باب الحارة». وفيما تعرض الحلقات الثلاث الأولى عند السادسة من مساء الثلاثاء والخميس والجمعة هذا الأسبوع، يستكمل عرض الحلقات الأسبوع المقبل بالتوقيت نفسه، يومياً ما عدا السبت والأحد.

18:00 على LBC




بين كساندرا و... أمّ عصام

«حظر تجوّل»... هذا ما فعله مسلسل «باب الحارة» في معظم المدن العربية، ما يعيد الذاكرة إلى زمن ما قبل الفضائيات، حين كانت تخلو شوارع المدن السورية لمشاهدة مسلسل «صحّ النوم» ومتابعة مقالب «غوار الطوشة»، ثم تكرر الأمر في الثمانينيات مع المسلسل المكسيكي «كساندرا». آنذاك أطلق بعض أصحاب المحال التجارية اسم «كساندرا» على متاجرهم، وها هو اسم «باب الحارة» يتصدر واجهة «مقهى إنترنت» في مدينة رام الله، في مفارقة تدعو الى التأمل: في الوقت الذي يدعو فيه المسلسل إلى الحفاظ على القيم الموروثة وترسيخها واقتلاع القيم الجديدة الوافدة ــــــ وهو ما أكده أبطال العمل في سهرة الحارة التي أقامتها قناة «المنار» أول من أمس احتفاء بنجاحه... يطلق أحدهم اسم المسلسل على مكان يفترض أن يكون رمزاً للعولمة والقيم الاستهلاكية الجديدة! أما في لبنان، فقد بدأت بعض المحال التجارية بيع علكة «باب الحارة».
خارج هذه الحمّى الفولكلورية، تساءل بعض كتّاب الأعمدة في الصحف العربية عن أسباب رسم صورة متخلّفة للمرأة، وخصوصاً أن العمل ورّط نفسه تاريخياً في مرحلة منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، وهي مرحلة نهوض اجتماعي وسياسي، وصراع فكري خاضته شخصيات وطنية معروفة، ليس بينها العطار والحدّاد والقبضاي. في هذه الحقبة، كانت تصدر عشرات الصحف السورية الوطنية، فيما كانت بعض نساء دمشق يقدن التظاهرات في الشوارع ضد المستعمر الفرنسي وليس سجينات المطبخ والجدران الأربعة.
هل سيرمم صنّاع المسلسل هذه الأخطاء في الجزء الثالث المنتظر؟ أم ستبقى هذه الحارة مدينة فاضلة عصية على الأشرار والغرباء، بعد مقتل الجاسوس الأعمى المبصر صطيف، وبعدما استيقظت الروح الخيّرة لدى «أبو النار» وانضم إلى معسكر «أبو شهاب»؟