علاء حليحل
«نحـــن» أشكنازيّـــة صغيـــرة تــقاوم همجيّــة إسرائيــل

سمع العرب باسمها حين أطلقت عام 2001 «دار أندلس» التي قدّمت الأدب العربي المعاصر باللغة العبريّة. من هي هذه المثقفة والمناضلة الإسرائيليّة التي فضّلت أجواء الناصرة وحيفا العربية على أرقى أحياء تل أبيب؟

لا تكاد ياعيل ليرر تأخذ مكانها إلى جانب الطاولة الصغيرة في مقهى «فتوش» العربي في حيفا، حتّى تقف مجدداً لتحيّة صديق عربي، ثم تعيد الكرّة للسلام على صديقة عربية في الجوار. تبدو محرجة وتعتذر لأنّ اللقاء الصحافي لا يسير بالوتيرة المطلوبة: «ماذا تريد؟ أنا في حيفا، في «فتوش»، لم تكن هناك إمكانية ثانية لإجراء هذا الحوار».
ربما يكون انعدام الإمكانية الثانية رمزياً بالنسبة إلى ليرر، ليس في جلستها في «فتوش» فحسب، بل في حياتها كلّها. فصاحبة «دار أندلس» للنشر التي تعنى بترجمة الأدب العربي الى اللغة العبرية، اختارت الإمكانية الثانية الأقل طبيعية لها كيهودية مثقفة، تسكن في أحد أرقى أحياء شمال تل أبيب التي تُعتبر رمز النخبة الأشكنازية البيضاء في إسرائيل. كان يمكن تلك المرأة الموهوبة والمثقّفة أن تحظى بحياة سهلة ومريحة في بيئتها النخبوية، وعلى مستوى الدولة أيضاً. إلا أن ليرر اختارت الرواية الفلسطينية بدلاً من الصهيونية، اختارت أجواء الناصرة وأحياء حيفا العربية على تل أبيب، اختارت «التجمع الوطني الديموقراطي» على «العمل» أو «كديما»...
«السياسة كانت مدخلي إلى الأدب والثقافة العربيين»، تقول ليرر التي بدأت ناشطة في حركة «ميثاق المساواة» التي أسسها عزمي بشارة عام 1991، وأيضاً في حركة «كامبوس» الطالبية اليسارية في جامعة تل أبيب. في هذا الإطار اختارت أن تتعلّم العربية لتفادي «فرض اللغة العبرية على اجتماعات معظم أعضائها من العرب!». وحين تأسّس حزب «التجمع الوطني الديموقراطي» عام 1995، كانت ليرر من مناضلات الساعة الأولى. ثم عملت مساعدة برلمانية للنائب عزمي بشارة في الكنيست حتى عام 2000: «بعد خمس سنوات من العمل اليومي إلى جانبه في البرلمان، قررت أن أترك لأني لم أعد أحتمل. العضو العربي في البرلمان الإسرائيلي في حالة مواجهة دائمة ويومية مع العنصرية الإسرائيلية. كان ذلك صعباً عليّ». من هنا ينبع ارتباط ليرر بالمشروع القومي الحداثوي لدى فلسطينيي 48. ومن هنا أيضاً خصوصية مشروعها السياسي والثقافي والحياتي في الدولة العبرية.
عندها قررت إطلاق «دار أندلس» لترجمة الأدب العربي المعاصر إلى لغة العدوّ، فأثارت الخطوة ضجّة كبرى في العالم العربي... وواجهها كثير من الكتّاب والمثقفين بصفتها خطوة تطبيعيّة، قبل أن يكتشفوا خلفيات المشروع، وخيارات مؤسسته ومديرته السياسية والفكريّة والأخلاقيّة. ترجمت الدار 22 عملاً تمثل أبرز التجارب في الأدب العربي المعاصر، من إلياس خوري وإبراهيم عبد المجيد إلى محمد برادة ومحمد شكري. ودافع مثقفون كبار عن المشروع، فكتب الراحل إدوارد سعيد حينذاك: «أليست ترجمة الأدب العربي إلى العبرية وسيلة لدخول الحياة الإسرائيلية ثقافياً وإحراز تأثير إيجابي فيها، وتغيير أفكار الناس من الشهوة للدم إلى الإدراك العقلاني؟... وخصوصاً أن هذا يجري على يد ناشرة إسرائيلية تريد مشروعها احتجاجاً على السياسة الهمجية الإسرائيلية بحق العرب». واجهت ياعيل ليرر تحدّياً كبيراً في محاولة فهم مناهضة التطبيع الثقافي مع إسرائيل، ودعمها: «أنا مناهضة للصهيونية وللاحتلال وللتطبيع مع الاحتلال. لكن السؤال يبقى كيف سنعيش معاً. صحيح، يوجد عرب وفلسطينيون يقولون إنّه يمكن بناء الجدار على الخط الأخضر وليكن الإسرائيليون جزءاً من أوروبا وانتهى الموضوع. لكنّ الحل المفضّل لي، ويبدو أنّه المفضل لدى الكثير من الفلسطينيين، وخصوصاً عرب 48، أن يعيش اليهود هنا بلا جدار عبر احترام حقوقهم الفردية والجماعية، وبينها حق تقرير المصير».
لكنّ ليرر تعارض شعار «دولتين لشعبين»: «لطالما سألت نفسي أيّ شعبين يقصدون؟ هل في مثل هذا الإطار سيتحول عرب 48 جزءاً من الشعب الإسرائيلي؟ وبما أنّ إقامة دولة فلسطينية دائمة في حدود 67 صارت غير ممكنة، يجب أن يكون الخطاب مختلفاً: خطاب واضح ضد الجدار والفصل العنصري. ولأنّنا في إسرائيل نعيش «أبرتايد» (نظام تمييز عنصري)، ينبغي لنضالنا أن يكون موجّهاً ضده. ما يهمّ هو الحياة المشتركة بين أبناء هذه البلاد عبر مساواة حقيقيّة واحترام جميع الحقوق، ومنها حق العودة. وهذا الأمر يصعب تحقيقه وسط هذه الجدران والأسيجة. لا بد من انهيار الجدار». وترى ليرر أنّ على العالم أن يوضح لإسرائيل بأنّ ممارساتها غير شرعية، وبأنها لا يمكن أن تستمر في سياستها وتكون جزءاً من المجتمع الدولي. وتضيف: «المقاطعة الأكاديمية والثقافية تهدف أيضاً إلى دفع المثقفين الإسرائيليين نحو معارضة الاحتلال. فالدعوة تتمحور حول مقاطعة أولئك الذين لا يعارضون الاحتلال، ولا يدعمون كامل حقوق الشعب الفلسطيني. لا بد من دفع كل «المعارضين الهادئين» للاحتلال إلى التزام موقف واضح». ثم تستدرك: «لكن يجب أن نتذكّر أنّ المقاطعة هي في النهاية آلية وليست ديناً».
وتعترف ليرر بصعوبة رسم الحدود الواضحة بين المشاريع التطبيعية والمشاريع المشتركة الشرعية الأخرى: «يكفي أن تدخل موقع الخارجية الإسرائيلية. يقولون لك كم التطبيع مهم بالنسبة إليهم. لديّ مشكلة مع كل مواطن إسرائيلي، عربي ويهودي، يتعاون مع الخارجية الإسرائيلية التي تريد أن تحوّلنا جنوداً عندها». ثم تلاحظ أنّ هذا ليس سهلاً، فالكثير من العرب واليهود اليساريين في فلسطين التاريخيّة، يتعاملون مع وزارة الخارجية الإسرائيلية عبر برامج وبيانات دولية، من دون فحص تبعات هذا العمل والمنافع التي تعود بها على البروباغندا الإسرائيلية التي تتباهى على الملأ بتوفير منصات ليهود وعرب مناهضين لسياساتها لكونها «الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». وتتابع ليرر: «لكن هل يجوز أن نقاطع عملاً مثل فيلم المخرج جوليانو مر ــــــ خميس (ابن المناضلة اليهودية اليسارية آرنا مر والشيوعي العريق صليبا خميس)؟ إيليا سليمان بنفسه احتجّ على حملات المقاطعة التي طاولت الفيلم المذكور».
خلال حوارنا، كانت تقول «نحن» عن الفلسطينيين، و«هم» عن الإسرائيليين واليهود. هل صارت فلسطينية أكثر من الفلسطينيين؟ تجيب بشكل قاطع: «ولدتُ يهودية وإسرائيلية، وبهذا المعنى أنا مسؤولة عن ممارسات دولتي. أنا الاحتلال! كل ما أقوله عن التطبيع والمقاومة أقوله من هذا المنطلق، ولا أسمح لنفسي بأن أعطي الدروس للآخرين، وأنا في مثل هذا الموقع الصعب».