strong> نجوان درويش
الفنانة التي تراقب العالم من شباك «فورد ترانزيت»

إنّها من أبرز وجوه الجيل الجديد في الفنّ الفلسطيني المعاصر... حملت دقّات الحزن في كنيسة ترشيحا، وبضع صور قديمة فيها نعوش فارغة وذكريات طفولة قريبة، وجاءت لتسكن وتعمل في القدس. تشتغل رنا بشارة (١٩٧١) على موادّ مختلفة في مشروعها البصري، وتحفر بشكل متواصل في طبقات «تاريخ معصوب العينين»
وصلت رنا بشارة أخيراً إلى القدس لتستقر فيها هذه المرة. وصلت بينما الاحتلال يحتفل بأربعين سنة على «توحيد أورشليم» والقوّامون على المدينة المحتلة غارقون في جدل بيزنطي حول فعّالية «القدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009»! خلال الطريق، سمعت رنا واحداً من ذوي المؤخرات الضخمة في كاريكاتورات ناجي العلي، يسأل متكرشاً آخر: «يعني شو القدس؟»، فأجابه المتكرّش بضحكة انتهازية فاقعة: «قرية كبيرة من قرى رام الله»!
رنا بشارة من أبرز فناني جيلها وأغزرهم إنتاجاً، الفنانة الشابة التي يبدو الفن لديها طريقة حياة، قدّمت مئات الأعمال التي قاربت فيها حرارة التجربة الفلسطينية، وفداحة الأحداث المتتابعة، بطريقة فنّية مباشرة... لكن من دون الوقوع في الخطابة والـ «كيتش». فبشارة تتغلّب على صعوبة موضوعها وحرارته بشكل يثير الإعجاب. ما يذكّر لوهلة بفنانة التركيب اللافتة منى حاطوم (مَن لا يذكر عملها «طاولة المفاوضات»؟)، وبأعمال فنان آخر من جيل رنا هو تيسير البطنيجي.
تربط هذين الفنانين مجموعةٌ من النقاط المشتركة والاختلافات أيضاً. البطنيجي مثلاً من مواليد غزة (1968) يكبر بشارة بثلاث سنوات، بدأ عرض أعماله مطلع الانتفاضة الأولى عام 1987، بينما بدأت بشارة بعرض أعمالها مطلع «اتفاقية أوسلو» عام 1993. البطنيجي بدأ رساماً اتجه عام 1997 إلى وسائط جديدة، كالتركيب والعروض الأدائية والفيديو والتصوير الفوتوغرافي. وهمّش الرسم لشعوره بأنّ إضافة جديدة صعبة في هذا المجال، وأن وسائط التعبير الجديدة أقدر على الإمساك باللحظة. أما بشارة التي بدأت مع الرسم فذهبت عام 1996 إلى وسائط التعبير الأخرى مثل البطنيجي؛ لكنّها لم تترك الرسم الذي ما زال أساسياً لديها. يبدو كل من البطنيجي وبشارة فناناً مفهومياً conceptualist في معظم أعماله، وفي الرسم أيضاً.
تستعمل رنا أحياناً موادّ غير مألوفة، معظمها طبيعية. الحنّاء مثلاً. هذه المادة ذات الوظيفة التزيينية لدى النساء، تأخذها باتجاه آخر بعيداً عن فكرة الزخرفة؛ فتجعلها فكرة للتعبير عن ذاتيتها وكيانها كامرأة تختار حتى خاماتها التعبيرية. ولا يمكن المرور على تجربة رنا من دون التطرق إلى «مجاز الصبار» في أعمالها. رنا تبدو من أكثر الفنانين توظيفاً للصبار، وإن كان الراحل عاصم أبو شقرا أبرز من أدخل الصبار إلى لوحاته. أدخلت بشارة الصبّار إلى أعمالها الإنشائية، سواء الصبّار الأخضر أو حتى ألياف الصبّار. ومن أبرز أعمالها بورتريه ذاتيّ من هذه الألياف الجافة.
ولدت رنا بشارة في بلدة ترشيحا الجليلية على حدود لبنان، ولا بد من أن تلك البلدة ــــ يقال إنّ كل نسائها ورجالها مغنّون وعازفون وهي أيضاً من معاقل الوطنية الفلسطينية ــــ أثّرت في الفتاة التي ستتقمّص الرواية الفلسطينية، وتقدمها في كل عمل جديد لها.
حملت رنا معها إلى القدس بضع صور فوتوغرافية من طفولتها. في إحدى هذه الصور، تظهر وهي طفلة مع والدتها وشقيقتها إيمان وشقيقها شادي، خلال زيارة العائلة للقدس بداية الثمانينات. وراءهم بدا مسجد «قبة الصخرة»، فيما رنا بملابس الصيف الخفيفة، تغطي والدتها جزءاً من شعرها بمنديل وتلف أختها كتفيها بشال. يبدو أنّهم كانوا يستعدون لدخول المسجد... اليوم، أصبحت الطفلة فنانةً تعيش في إحدى ضواحي المدينة وتراقب كل أسبوع كيف يمنع الجنود المصلين من بلوغ المسجد الأقصى، فيفترشون الشوارع عند مداخل البلدة القديمة ويصلّون.
تفكّر رنا بشارة بعمل فني مستوحى من فعل الصلاة في الشارع. هنا، الصلاة تتجاوز معناها الديني، وتصير ذاكرةً شخصيةً للفنانة، ورحلة صيف لعائلة من ترشيحا في «تاريخ معصوب العينين»، عنوان أطروحتها الجامعية في الفن التشكيلي. كانت تنهي صفحاتها الأخيرة عندما رأت من نافذة غرفتها الجامعية قرب نهر سفانا (جورجيا، الجامعة تجاور قاعدة عسكرية) الجنود الأميركيين وهم يصعدون السفن الحربية، فعلمت أنّ هؤلاء التعساء ــــ بينهم السود واللاتينيون وأبناء الفقراء كالعادة ــــ يتوجّهون لغزو بلد عربي اسمه العراق. لم يعرفوا أنّ فنانة عربية كانت تراقبهم عبر النافذة، وهي تتخيل السيّاب و«رسائل الحب الكثار/ مبتلّة بالماء منطمس بها ألق الوعود» تغرق رويداً رويداً في نهر الغزاة.
في صورة فوتوغرافية أخرى حملتها معها إلى القدس، نرى مشهداً من مسيرة تشق شوارع ترشيحا: نعوش فارغة مرفوعة لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، فيما رنا التي كانت طفلة يومها في الحادية عشرة، مختفية بين الحشود. حتى الآن، يمكنها أن تسمع الإيقاع التراجيدي لدقات الأجراس المختلطة بتلاوة القرآن بين الجامع والكنيسة. ذلك أن تلك البلدة لم تكن تقيم جنازتها الرمزية للفضائيات... فقد كان عالم الصورة أقل استعراضية مما هو عليه اليوم مع الفضائيات. بكل بساطة، كان ذلك رداً عفوياً على إحدى أبشع جرائم الذاكرة العربية المعاصرة. منذ ذلك الوقت، ورنا مختفية بين الجموع، وكل المجموعات التي تتعرض لاعتداء، ويكاد فنها يكون الصرخة المكتومة لتلك الطفلة التي أذهلها مشهد النعوش على خلفية الإيقاع الشجي للآيات ودقات الحزن من كنيسة ترشيحا.
في عملها الأخير الذي عُرض في الضاحية الباريسية، تجلس رنا على الأرض بثوب فلاحة فلسطينية لتحيي طقس (أو سرّ) المناولة. بدلاً من جسد المسيح، تناول الفنانة كل داخل الى المعرض (أو ملكوت العذاب الفلسطيني)، قطعة خبز مغمّسة بالزيت والصعتر.
تبدو رنا في خضم الصور القديمة وفي حياتها اليومية، وقصص مشاكلها المتكررة مع جنود الاحتلال على الحواجز ــــ وأيقونة «حنظلة» التي لا تفارق عنقها ــــ كأنها أخت كبيرة لحنظلة، تولّت رعايته بعد اغتيال والدهما ناجي العلي عام 1987. في ذكرى ناجي العشرين، قدّمت رنا أول عمل فني لها بعد انتقالها إلى القدس، يُظهر حامل ألوان أبيض عليه خمس حبات بنادورة مهروسة، وحبة سليمة على وشك أن تهرس أو تنجو. بينما حنظلة يوجّه إلينا تلك النظرة المحيّرة التي تزاوج بين الانتظار والشك.
قد تكون رنا بشارة الآن في «فورد ترانزيت» (سيارة أجرة)، تقطع شوارع القدس نحو بيت لحم... بينما تراقب من النافذة مشهد شوارع محتلّة مستلبة في «وقفة العيد»، وعلى وجهها نظرة محيّرة، تزاوج أيضاً بين الانتظار والشك.