برلين ــ فاروق سلوم
فرناندو بوتيرو نموذج للرسام التعبيري الخالص الآتي من أميركا اللاتينية ليعبّر بقوّة، عن روح تلك القارة الملغّزة بثقافتها الملأى بالرموز والدلالات. ومنذ بداياته، شُغل بصورة الإنسان، حتى صار هدفه الأسمى. هكذا هو بوتيرو، ومعرض منحوتاته الذي تحتضنه برلين حتى 24 من الشهر الجاري لا يشذّ عن القاعدة.
ينحت بوتيرو الإنسان في وضعيات مختلفة ويسبر دواخله مطلقاً العنان لكل أدوات الرسام التعبيري في التهشيم والتشظية، والمبالغة في مضاعفة كتلة في الجسم على حساب الأخرى. كأنّه يلعب بالأشكال إلى درجة يستحيل معها الموضوع كاريكاتوراً... أو يذهب في الكشف الوضيع حدّ الأسى المدمّر، أو يستسلم لقسوة التعبير في العاطفة.
أدرك بوتيرو باكراً أنّ السيكولوجيا هي أداة الكشف الفني، وأنّ اكثر الناس «سويّة» كما توحي صورهم هم أيضاً أكثرهم هشاشةً وتشظياً. هكذا، توغّل في جوهر كل ما هو برّاني في الشخصية، لكشف تذبذبها وتحولّها الداخليين، رافضاً أي دلالة واقعية ثابتة في مظهر شخصياته. إلا أنّ العالم لم يعرف بوتيرو كفايةً الا العام الماضي، عبر اللوحات التي رسمها تحت تأثير كابوس سجن أبو غريب. كان وقعها على الرأي العام كالصدمة، تلك الفضيحة التي كشفها الأميركي سيمور هيرش عن مدنيين عراقيين يمارس عليهم الجنود الأميركيون ساديّتهم. انكبّ بوتيرو طيلة سنة على رسم 42 تخطيطاً و38 لوحة تظهر ضحايا أبو غريب بعافيتهم الكاملة وهم يواجهون همجيّة الجلاد. فتحت صالات العرض العالمية أبوابها لأعماله تلك، فيما استقبلتها الولايات المتحدة على مضض. إذ رفضت احتضانها أولاً إلى أن تجرأت «مارلبورو غاليري» في مانهاتن على ذلك. وحين عرضت هناك، ازدادت معرفة العالم ببوتيرو أكثر من تلك المحاكمات التي كادت تعرّضه للموت في بلده كولومبيا، في ستينيات القرن الماضي بسبب رسومه المنتقدة للنظام.
هنا، في برلين يفاجئنا بوتيرو بـ 16 منحوتة تعبيرية تكشف الألم واللذة معاً. «الانطباعية لا تعرف وطناً محدداًً ـــــ يقول ـــــ أُعجبتُ بالنمساوي أوسكار كوكوشكا، لكنّي لم أنسَ فان غوغ ولمسته اللونية في لوحاتي، أو الألماني ترنست كيرشنر أو كبير التعبيريين الروس فاسيلي كاندنسكي».
يرى بوتيرو أنّ التعبيرية حركة كونية على رغم أنّ لها خصوصيتها في المكان. وهو يفاجئ دوماً المهتمين بأعماله. إذ خالف هذه المرة قواعد عمله، ليشتغل على 16 منحوتة كسر فيها رتابة التعبير الثابت الذي تعكسه بورتريهات شخوصه. وراح يعبّر عن زوايا متعددة في الشخصية، وعن حالات مغايرة لطبيعتها المعلنة... كما فعل دائماً في لوحاته التي وجدت امتدادها ـــــ هذه المرة ــــــ في مادته النحتية.
يبدو معرض بوتيرو غريباً تماماً مثل غرابة برلين، هذه المدينة المفتوحة على كل الثقافات. وقد شهدت حديقة «لوست غاردن»، وتعني حديقة اللذة، إقبالاً شديداً واهتماماً بمعرض بوتيرو الذي يبدو حدثاً منقسماً على نفسه فنياً وثقافياً، إذ إنّه يمثل صورة اللاتيني وهو يبتكر صورتنا... واللاتيني وهو يرى نفسه خارج جغرافيا الجنوب البعيد.