حسين بن حمزة

السيرة الخفيّة لشاعر يواصل مجازفاته وارتيابه
قصيدة النثر قطعت معه أشواطاً في رحلة النضج، وساهمت في نقل الشعر العربي الحديث إلى مرحلة جديدة، تقطع نهائيّاً مع الغنائيّة والخطابة. صدور «الأعمال الشعريّة» التي قدّمت لها خالدة سعيد، مناسبة لإعادة اكتشاف هذه التجربة الاستثنائيّة
لا يحتاج عباس بيضون إلى صدور أعماله الكاملة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) لكي يتلمّس القارئ منجزه الشعري الهائل والشديد الخصوصية. ثمة عمل حقيقي وملموس في كتابة عباس بيضون. إنه واحد من عمال الشعر وصانعيه المهرة، وليس شاعراً فقط. ويمكن النظر إلى ممارسته الشعرية بوصفها أسطع مثال على الكتابة التي أُنضجت في مشغل شعري، وعُرِّضت لنار الابتكار والنقد معاً. إذ لطالما تميز شعر عباس بيضون باحتياطيّه النقدي والمعرفي الكبير. إن نقد الشعر ومعرفة أسراره وحِيله وممارساته، يدخل ويتدخّل في إنجاز عمله الشعري. لكن القصيدة، في صيغتها النهائية، لا تُري القارئ موادها وخاماتها وأفكارها الأولية. بل تُذيب كل ذلك وتسكبه في الأوعية غير المرئية للصور والاستعارات.
باستثناء بهجته الشخصية برؤية مؤلَّفه الشعري كله وإمكانية قياسه كمياً، لا يرى عباس بيضون أن ثمة فرقاً حاسماً بين قراءة أعماله متفرقة ـــــ بحسب تواريخ صدورها ــــــ وبين قراءتها كاملة. ويُبدي نفوره من فكرة أن الأعمال الكاملة تعني تحقق «مشروع شعري» ما. يقول: «كانت علاقتي بنصي على أساس أنه لا يملك وحدة أو تسلسلاً. كل كتاب، بل كل قصيدة كانت لها جملتها. من السهل لكلمة مشروع أن تتحول إلى شعوذة، وحين يتحدث الشاعر عن مشروعه، فهو يعطي لنفسه احتكار الكلمة وحق تفسيرها. قد تكون هناك حساسية لغوية واحدة أو هاجس واحد، أو تطلّع واحد... لكن ذلك ينمو مع الكتابة ويسلك طرقاً ومنعطفات مختلفة».
بهذا المعنى، تبدو كتابة بيضون كأنها استدراكات أو صراعات مستمرة، أو مجازفات أحياناً. كتابه الأول «الوقت بجرعات كبيرة» (دار الفارابي ـــــ 1983) كان إعلاناً بإمكان الكتابة بلغة جزئية ومحايدة ومكتومة ومسننة. هذه السمات التي كانت أشبه ببيان شعري شخصي ضد المديح والغناء والعاطفة والإثارة اللغوية الجاهزة، لم تستمر طويلاً. في «زوار الشتوة الأولى» و«نقد الألم»، تم التراجع عن نصف هذه المواصفات. وفي «حجرات» تم التنازل عن النصف الباقي. بدا أن الشعر يتحقق ويُنجز عبر وضع شروط للعبة، ثم التلذذ بالتطاول عليها وخرقها. لكن التخلي عن هذه الشروط كان يخلق لها استعمالات أخرى، تتسرب إلى نصوص لاحقة. وفي هذا السياق، يعترف بيضون بأنه لا يعرف إن كان هذا النوع من الشغل الشعري يربّي سياقاً واحداً، أو يتحول إلى انقطاعات متواصلة، ويؤكد أنّ لديه قلقاً شخصياً من أن يكون عمله الشعري عبارة عن سيرك وبهلوانيات مستمرة.
لا تكمن فرادة عباس بيضون في شعره فقط، بل في علاقته بهذا الشعر. وعلى رغم تجربة صاحب «أشقاء ندمنا» الطويلة واسمه المكرّس، فإنّه لن يجاريك حين تمتدح براعته وأسلوبيته التي ربما يصعب على أي نقد أن يُظهر ما يخدش كمالها، بل إنه لن يتوانى عن إرشادك بنفسه إلى ما يمكن أن تنتقده في شعره. عباس بيضون مرتاب كبير، وأحد أشد القساة على شعره، حتى إنه أهمل مجموعة «صور» (كتبها سنة 1974) ولم ينشرها إلا بعد مرور أكثر من عشر سنوات على كتابتها. وحين يتصفح أعماله الكاملة اليوم يُقرّ بأن نصوصاً كثيرة بانت شقوقها وتصدعاتها ومشكلاتها الداخلية، ولا يكاد يستثني منها سوى «خلاء هذا القدح»، معتبراً أن هذا النص لا يزال يعيش من دون خدوش، وأن صدوعه لم تظهر حتى الآن: «كل نص كتبته كان له معادل خارجي. في «صور» ثمة مدينة. في «نقد الألم» نصوص سياسية. «زوار الشتوة الأولى» كُتب تحت الاحتلال الاسرائيلي. «حجرات» سيرة شخصية مدفونة. «أشقاء ندمنا» سيرة غزلية... «خلاء هذا القدح» هو النص الوحيد الذي لم يكن له مقابل خارجي. المواد الأولية لهذا النص استعملت بكاملها، ولم يبقَ منها ما يدل عليها في النص الأخير».
الواقع أن «خلاء هذا القدح» هو الكتاب الذي كرّر عباس بيضون أكثر من مرة بأنه الأقرب إلى نفسه. لعل قرّاء كثيرين يوافقونه الرأي، إذ من النادر أن تتساوى مواد قصيدة مع نسختها النهائية، كما حدث في هذه القصيدة. قد يعتبر قارئ ما أنها تمثل خلاصة فن عباس بيضون الشعري. ولكن نظرة متأنية أكثر ستدفع هذا القارئ إلى استبعاد هذا النوع من الانتقاء. ذلك أن «فن» صاحب «الجسد بلا معلم»، متشعب ومبثوث في أكثر من مجموعة وأكثر من قصيدة. الأرجح أن أعماله الكاملة هي سيرة، ظاهرة حيناً، ومدفونة غالباً، لفنه الشعري.
من جهة أخرى، تقدم «الأعمال الكاملة» لعباس بيضون فرصة مواتية للحديث عن المنجز الشعري لجيله وأقرانه. وتناول الدور الذي أدّاه هذا الجيل كوسيط ضروري وخلاق، لنقل الحداثة الشعرية العربية من لحظة التأسيس إلى طور النضج، إلى حد يمكن عنده الحديث عن حداثة ثانية بدأت مع هذا الجيل، وتطورت وتشعبت في مسالك متعددة لدى من جاء بعدهم.
لنستمع إلى صاحب «لُفظ في البرد»: «جيلنا والجيل الذي جاء بعدنا قاموا بشغل بينما الذين قبلنا عملوا بيانات. إذا كان لدينا بيانات فهي جزئية ومركّزة وتقنية. إنه جيل إنجاز، والإنجاز فيه حفر. بعضنا حفر وبعضنا لم يحفر. شغلنا يُقاس بإنجازه لا ببياناته، ولهذا فهو لا يُرى كثيراً، لأن القارئ العربي يحب البيانات أكثر من الإنجازات. إنه يريد من الشعر أن يكون بياناً وثورة وحقيقة. ربما لم يَحِن وقت تقويمنا كجيل، لكن عدداً من أفراد هذا الجيل وما بعده أنجزوا ما يمكن اعتباره اختباراً للبيانات الكبيرة. الإنجاز هو شكل من أشكال تحجيم البيانات وموضعتها. تجارب سركون بولص ووديع سعادة وبسام حجار وأمجد ناصر، أحس أن فيها شعراً يعيش أكثر من معظم الشعر الذي جاء قبله، حتى من ذلك الذي اتفقنا على تقديسه كالسياب».