باريس ـــ عثمان تزغارت
«من كان يتصوّر أن ذلك يحدث في بلد متحضّر مثل لبنان؟». هذا السؤال الجارح تسأله دومينيك توريز في تحقيق يبثّه التلفزيون الفرنسي هذا المساء عن النخاسة الحديثة، ضمن برنامج «موفد خاص» على القناة الثانية

من يعتقد أنّ سكان الضاحية الجنوبية ومقاتلي المقاومة في الجنوب كانوا وحدهم الأكثر عرضةً للقصف الإسرائيلي خلال عدوان تموز، فهو على خطأ! هنالك فئة اجتماعية أخرى، لم تكن لتخطر في البال، وجدت نفسها هدفاً مكشوفاً، وبشكل عمدي، للقنابل الإسرائيلية: يتعلّق الأمر بما لا يقلّ عن 30 ألفاً من خادمات البيوت. أولئك أُرغمن على البقاء أسيرات المنازل التي هجرها أهلها في الجنوب والأحياء الأكثر عرضة للقصف في بيروت. تمّ إقفال الأبواب عليهن، وتُركن برفقة كلاب الحراسة، حتى لا تتعرض البيوت التي فرّ أصحابها نحو وُجهات أكثر أماناً، للنهب والسرقة!
كم كان عدد قتلى الحرب بين هؤلاء الخادمات؟ لا أحد يدري بالضبط، أو بالأحرى لا أحد يهتم. فهنّ في الواقع لسنَ مجرّد عاملات في البيوت، بل يمثّلن نوعاً من رقيق العصر الحديث. ويقول الأب ماك ـــــ ديرموت الذي تلجأ إليه العديدات منهن في كنيسة القديس يوسف في بيروت: «أغلب الناس يرون الخادمات ملكاً لهم، ويعاملونهن كأمتعة أو أثاث، لا
كبشر!».
الأدهى أن اللواتي قرّرن الفرار هرباً من رعب القصف الإسرائيلي، وجدن أنفسهن في نهاية الحرب عرضة للملاحقة القضائية من مستخدميهن، بتهمة «مغادرة مكان العمل بشكل غير قانوني». ولم تتورع الشرطة عن التجاوب مع الشاكين، فسجنت 400 خادمة، بدل سجن هؤلاء الذين تركوهنّ عرضة للقصف. ما يمثّل جنحة يُفترض أن يُعاقب عليها القانون بتهمة تعريض حياة الآخرين للخطر!
هذه المفارقات القانونية والتصرفات غير الإنسانية، يضيء عليها تحقيق تلفزيوني بعنوان «لبنان، بلد العبيد»، تبثّه قناة «فرانس 2» الليلة ضمن برنامجها الشهير «موفد خاص» Envoyé Spécial. في هذا التحقيق الذي أعدته بالاشتراك مع أوليفيه روبير، ترصد دومينيك توريز، رئيسة «اللجنة الفرنسية لمكافحة العبودية الحديثة»، وقائع وتفاصيل غاية في البشاعة عن ظاهرة استعباد خادمات البيوت... بما لا يخطر أنه قد يقع في بلد «عصري ومنفتح مثل
لبنان».
يكشف الشريط أن خادمات البيوت في لبنان يبلغ عددهن قرابة 200 ألفاً. ما يمثّل فئة اجتماعية أو «طائفة» جديدة تضاف إلى طوائف البلد. وهذا العدد بالمواصفات السكانية للبنان، ضخم جداً، إذ يعني أن واحداً من كل 16 شخصاً من سكان البلد هو... من خادمات البيوت!
وراء تفاقم هذه الظاهرة بيزنس ضخم تديره 380 وكالة متخصصة في استيراد خادمات البيوت. تتقاضى هذه الوكالات قرابة 2000 دولار عن كل خادمة، يتم استقدامها إلى البلد. ويقتصر دورها فقط على تسفيرهن من دولهن الأصلية، وضبط الاتصال بينهن وبين أصحاب البيوت الذين يجب على الواحد منهم، أن يتنقّل بنفسه إلى مطار بيروت، لتسلّم خادمته. وذلك في قاعة انتظار كبيرة مخصصة لهن، كما تشير إليه بوضوح لافتة مكتوب عليها: «منطقة تسلّم الخادمات».
لبنان وقّع منذ عام 1948 الاتفاقية الدولية لحظر مصادرة أوراق الهوية، ثم أدرج في دستوره عام 1991، الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي ينصّ على حظر العبودية الحديثة بمختلف أشكالها. إلا أن تواطؤاً قانونياً واضحاً يحمي أصحاب البيوت وشبكات النخاسة الحديثة التي تزوّدهم بالخادمات. إذ يكفي أن يتوجّه أحد أصحاب البيوت إلى منطقة تسلّم الخادمات في مطار بيروت، ويقدّم اسم الخادمة المخصّصة له، لكي يُسلّمه ضباط الجوازات جواز سفرها الذي سيبقى محجوزاً لديه، طيلة فترة إقامة الخادمة في لبنان.
أمّا عن ظروف العمل، فحدّث ولا حرج: يتم تسخير الخادمات على مدار الساعة، وكل أيام الأسبوع، مقابل راتب شهري لا يتجاوز 200
دولار!
جمعية «كاريتاس» الخيرية، أجرت استطلاعاً للرأي في أوساط أصحاب البيوت الذين يمتلكون خادمات. وجاءت نتائج الاستطلاع صادمة ومنافية لأبسط أخلاقيات الكرامة الإنسانية: 91 في المئة ممن يشغّلون خادمات في بيوتهم، اعترفوا بأنهم يحتجزون جوازات سفرهن، 71 في المئة قالوا إنهم يمنعونهن من الخروج، 34 في المئة قالوا إنهم يؤدّبونهن، كما يفعلون مع أطفالهم. أما 31 في المئة، فقد اعترفوا بشكل صريح بأنهم يضربونهن، فيما لم يتورع 33 في المئة منهم عن القول إنهم يقتّرون عليهن في الطعام.
حيال مثل هذه المعاملات غير الإنسانية، تلتزم الشرطة والقضاء موقفاً متواطئاً، فكل خادمة تقدّم شكوى ضد مستخدميها بسبب سوء المعاملة أو الضرب أو حتى الاغتصاب، يكون مصيرها السجن. هذا ما يؤكده المحامي رولان طوق الذي يحاول الدفاع عن بعضهن. ويتمثّل ردّ فعل أصحاب البيوت في هذه الحالة دوماً في تقديم شكوى مضادة، لاتهام الخادمة بالسرقة أو الهروب من البيت!
ويصل الأمر ببعض هؤلاء الخادمات إلى الانتحار، لوضع حد لمعاناتهن. وقد أحصى الشريط أكثر من مئتي حالة انتحار خلال السنوات الأربع الأخيرة. وحتى في هذه الحالات، فإن القضاء لا يحرّك ساكناً، وذلك على رغم أن الطبيب الشرعي سامي قوّاس الذي شارك في تشريح جثث بعض الخادمات المنتحرات، اعترف في الشريط بأن أغلبهن كن يحملن آثار ضرب وعضّ وحروق!

21:50 على France 2



في مواجهة «العبوديّة الحديثة»

معدّة هذا الشريط، دومينيك توريز، أصدرت عام 1996 كتاباً مدوّياً بعنوان «رقيق» (منشورات فيبوس ـ باريس). وكان له دور بارز في تسليط الضوء على ظاهرة «العبودية الحديثة» التي تعانيها خادمات البيوت حتى في الدول الأوروبية، على رغم التشريعات المتشدّدة التي تم سنّها في هذا الشأن.
وكانت دومينيك توريز، خلال السنة ذاتها، وراء الفضيحة التي طاولت الروائي الفرنسي من أصل مغربي، الطاهر بن جلون. وهو كان قد تورّط في استقدام خادمة مغربية من طنجة لتشغيلها في بيته الباريسي، محتجزاً جواز سفرها، ورافضاً دفع أي راتب لها، عدا 500 فرنك (أقلّ من 70 دولاراً)، كان يرسلها شهرياً إلى عائلتها في المغرب.
ووصلت الوقاحة بـ«الكاتب الكبير» الذي لم يكفّ منذ ربع قرن عن إسداء الدروس لنظرائه من المثقفين العرب عن الديموقراطية والعصرنة وحقوق الإنسان، إلى حدّ القول أمام المحكمة إن ما فعله كان «خدمة إنسانية»، لأن تلك الخمسمئة فرنك التي كان يرسلها إلى عائلة خادمته المغربية في طنجة، تمثّل «ثروة باهظة بالنسبة إليهم»!
مثقف عربي آخر في فرنسا، هو خبير الإسلاميات مالك شبل، أصدر مطلع الشهر الجاري كتاباً بعنوان «العبودية في أرض الإسلام». اعتقد كثيرون أن الأمر يتعلق ببحث تاريخي، لكن شبل فاجأ الجميع بتحقيق ميداني جاب خلاله العالم الإسلامي، من الهند إلى موريتانيا، حيث سجّل شهادات يندى لها الجبين عن ظاهرة «العبودية الحديثة» وتعاني منها فئات اجتماعية ومهنية عديدة تؤلّف خادمات البيوت الحلقة الأضعف منها.
الأدهى، يقول مالك شبل، أن غالبية المتورّطين في مثل هذه الممارسات يستغربون أن يوصموا بممارسة العبودية الحديثة. بل يتصوّرون أنهم يسدون خدمة إنسانية للخادمات اللواتي يستعبدونهن!
في الشريط الذي تبثه «فرانس 2» الليلة، تتحدث سيدة لبنانية، دون أدنى حياء، عن دور حضاري في تربية الخادمات. وتقول: «إننا نقوم بدور إنساني في تحضير هؤلاء الخادمات، ونسدي لهن خدمات إيجابية جداً. آخر خادمة اشتغلت معي، حين وصلت من طوغو، لم تكن تعرف كيف تأكل ولا كيف تغتسل. كانت بصراحة في وضع أشبه بالكلب! أما حين غادرت بيتي، بعد خمس سنوات، فقد أصبحت فتاة حسنة التربية ومتحضّرة وتجيد عملها»!