محمد خير
في كتابه الجديد، يعود رئيس «حزب التجمع اليساري» المصري إلى تاريخ تطور نظرة علماء المسلمين وساستهم إلى مفهوم الخلافة، ويبحث في علاقتها بالدولة من حيث كونها تنظيماً اجتماعياً. وفكّك رفعت السعيد آليات الفكر السلفي الداعي إلى العودة للماضي، مستشرفاً احتمالات مستقبل مجهول الملامح

الفوز الذي كان متوقعاً لعبد الله غول بالرئاسة التركية لم يثر مخاوف العلمانيين الأتراك والجيش التركي فقط، بل فاقت تأثيراته الشأن المحلّي والحسابات الحزبية لتصب تلك التأثيرات في بحيرات فكرية كانت قد جفّت أو كادت، فاستيقظت لدى بعضهم أحلام «الخلافة» من جديد. وها هي الدولة التركيّة التي ظلت مقر الخلافة الإسلامية إبان الحكم العثماني، يسيطر على صندوق انتخاباتها الإسلاميون، وهو ما جعلها تمثّل مرجعية لدى بعض التيارات السياسية في العالم العربي والاسلامي. تيارات لا تزال تؤمن بالمفهوم الواسع «للأمة» الإسلامية بمعناها السياسي المباشر وليس فقط بالمفهوم العقائدي والثقافي. وهي تيارات أعلن أحد أهم قادتها أي مهدي عاكف مرشد الإخوان المسلمين في مصر، أنّه لا يمانع أن يحكم مصر رجل من ماليزيا تحت عباءة الخلافة ومفهومها، كما يشير الدكتور رفعت السعيد في كتابه «أوهام الخلافة» الصادر ضمن سلسلة «كتاب الهلال» في القاهرة.
يعود السعيد وهو رئيس «حزب التجمع اليساري» المصري إلى تاريخ تطور نظرة علماء المسلمين وساستهم إلى مفهوم الخلافة/ الإمامة، ويبحث في علاقة الخلافة بالدولة من حيث كونها تنظيماً اجتماعياً. هكذا، يميل إلى رأي أبو الفتح الشهرستاني في كتابه «نهاية الإقدام» بأنّ «الإمامة ليست من أصول الاعتقاد» وإلى رأي عبد القاهر الجرجاني في «شرح المواقف» بأنّ «الخلافة ليست من أصول الديانات والعقائد بل هي من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين».
يعود المؤلف إلى بداية علاقة مصر بالعثمانيين وغزوها على يد السلطان سليم الأول. وكان سلطان مصر آنذاك هو قنصوه الغوري الذي كان يلقب نفسه بـ«خادم الحرمين الشريفين» وكان يتكفّل بغسل الكعبة وكسائها كل عام ويرعى الأماكن المقدسة في فلسطين. ثم يصدر مفتي الأستانة فتوى تحلّل لسليم الأول غزو مصر بعدما مات حاكمها، وتولّى مكانه طومان باي. ويبعث سليم إلى طومان رسالة جاء فيها «إن الله قد أوحى إليّ بأن أملك الأرض والبلاد من الشرق إلى الغرب كما ملكها الإسكندر ذو القرنين، وأنا خليفة الله في أرضه، وأنا أولى منك بخدمة الحرمين الشريفين».
هكذا، يغزو سليم مصر ويشنق طومان باي على باب زويلة أحد أشهر أبواب القاهرة، وتظل علاقة مركز الخلافة في الأستانة بمصر علاقةً مضطربةً فيها من التنافس أكثر ما فيها من التبعية. خصوصاً بعد تولّي أسرة محمد علي حكم مصر إذ عادى السلطان العثماني كل من نادى باستقلال مصر وعلى رأسهم أحمد عرابي، إلى أن انتهت الخلافة في تركيا على يد كمال أتاتورك. اجتمع عدد من علماء الأزهر ليصدروا بياناً يرفضون فيه قرارات أتاتورك، على اعتبار أن «من بويع من المسلمين لا يمكن خلعه». إلا أن منصب الخليفة الشاغر أسال لعاب العديد من الحكام العرب، وعلى رأسهم الحسين بن علي ملك الحجاز، وفؤاد ملك مصر. وفي الوقت نفسه نشبت حركة لرفض الخلافة، جناحها السياسي «حزب الوفد»، وجناحها الفكري عدد من المثقفين أهمهم حسين هيكل وعزيز ميرهم... وتوّجت بالكتاب الشهير «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق. ومما جاء في الكتاب أنّ «الحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة جميعاً خطط دنيوية لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها... فليس من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا».
الا أن كتاب السعيد ليس استعراضاً تاريخياً لمفهوم الخلافة، بل يتخذها مفتاحاً لتناول العديد من المسائل الخلافية المتعلقة بتماس الدين مع الحياة المدنية في العالم العربي، بدءاً من الفتاوى التي أصبحت تأتي من كل حدب وصوب وصولاً إلى التقاء الدين بالسياسة في جهة المعارضة ـــــ خصوصاً الإخوان المسلمين ـــــ وموقف الأنظمة الحاكمة منها، مروراً بالقضايا المتصلة بتعليم الدين في المدارس العامة، وحتى دعاوى التمييز الإيجابي للمرأة والأقباط في الحياة السياسية المصرية.
إن الخلافة تختصر كلّ هذه القضايا بوصفها نموذجاً لطريقة تفكير العديد من المنتمين إلى التيار الفكر السلفي: إنها تلخّص الرغبة في العودة إلى الماضي، وفق نموذج غير محدد سيرسم مستقبلاً مجهول الملامح. والرغبة الحادة في طرح الخلافة والمفاهيم المتعلقة بها من حيث مصدر الحاكمية، هي رغبة في فرض طرق محددة للتفكير، وأسلوب وحيد في استنباط الفتوى يحولها ـــــ يقول السعيد ـــــ إلى محنة للإسلام والمسلمين. وإذ يتخذ بعض السياسيين من المقدس أداةً في معاركهم السياسية، فإنهم يتجاهلون المقولة «الدين تسليم بالإيمان والرأي تسليم بالخصومة، فمن جعل الدين رأياً جعله خصومة، ومن جعل الرأي ديناً جعله شريعة».
في كتابه ذي الفصول الخمسة، يرى المؤلف أن السرّ وراء الفوضى التي تحكم الساحة الفكرية والسياسية في العالم العربي الإسلامي، هي فوضى تعزى إلى ثلاثة أسباب: «النظرة الخاطئة للتراث، التمسك بالتفسير النصّي، وعدم الإصغاء إلى الملابسات والدواعي وأسباب النزول، وأخيراً إقحام ما هو ديني في ما هو سياسي». ولا شكّ في أن النظرة الانتقائية للتراث، وخلط الديني بالسياسي تسبّبا بـ«تحوّل القول بحكم الشريعة إلى أفعال إنسانية. فالبشر يتشكلون بحسب انتماءاتهم ومصالحهم وأخلاقياتهم. وما كانت هذه الأحكام جميعاً إلا مسائل إنسانية لا علاقة لها بما ترتديه من ثياب دينية».