بشير صفير
«الموسيقى العربية إلى أين؟» سؤال يفرض نفسه بإلحاح، منذ النصف الثاني من القرن التاسع العشر. ويبدو طرحه أكثر إلحاحاً في ظلّ الموجة المتدنية التي تشهدها الموسيقى العربية اليوم. في كتابه «الموسيقى العربية إلى أين؟» (دار الفارابي)، يطرح الباحث التونسي لطفي المرايحي بأسلوب تحليلي السؤال عينه، من دون أن يتكهّن بالإجابات أو يغامر في المراهنة على المستقبل. فالطريق إلى معالجة تلك الإشكاليّة، في نظره، تبدأ باستعادة تطوّر الموسيقى العربية عبر التاريخ.
يبدأ المرايحي كتابه بإهداء إلى الناقد الموسيقي اللبناني الراحل نزار مروّة، ثمّ ينتقل إلى شرح الجدليّة التاريخية القائمة على الصدام الدائم بين المحافظين على الإرث الموسيقي من جهة، ودعاة التجديد من جهة أخرى. وينتقل إلى المحطّات التي شهدها هذا الجدل منذ مطلع القرن الماضي. يرى المرايحي أنّ الأغنية الهابطة اليوم ليست سوى متنفّس وحاجة أنتجها المجتمع العربي المتخبّط بمشاكله، للتخفيف من وطأتها. تماماً كما حصل بين الحربين العالميتين، عندما ظهرت أغنيات لا تقلّ سطحية عمّا نسمعه اليوم. ويبحث المرايحي في الأسباب التي تقف وراء افتقار الموسيقى العربية إلى الموسيقى «الآلاتية». إذ إنّ النص الشعري ومستلزماته ومحدودية الصوت البشري (نسبة إلى الآلة الموسيقية)، كبّلت حرية المؤلّف الموسيقي التي لا يطلَق لها العنان في مجال الأغنية. أضف إلى ذلك غياب التمكّن من الآلة الموسيقية وتقنياتها قي المجتمع العربي وعدم قابلية المتلقّي العربي على الاستماع إلى موسيقى آلاتية خالية من الغناء. وفي هذا السياق، يتوقّف المؤلف عند تجارب عبد الوهاب ومحمد القصبجي ومن جاء بعدهما. علماً أنّه نسي «أمير الكمان» سامي الشوّا الذي كان من طليعيّي هذا الاتجاه مطلع القرن العشرين.
يغوص المرايحي بإسهاب في تأثير الموسيقى المصرية على الموسيقى العربية عموماً، وتأثّر الأولى بالموسيقى التركية أصلاً. ويتطرق إلى أهمية التوثيق الموسيقي الذي أتاحه اختراع تقنية التسجيل بعدما أهمل العرب عبر الاجيال مسألة التدوين الموسيقي، تاركين مسألة توريث إبداعاتهم إلى التناقل الشفهي. ويفرد الباحث باباً للنقد الفنّي، منتقداً من يسمّون أنفسهم نقّاداً موسيقيّين في الوطن العربي بسبب خلوّ قلمهم من أدنى مستلزمات النقد العلمي البنّاء. وفي سياق آخر، يشيد بدور المهرجانات الموسيقية في تنمية الذوق الموسيقي الجماهيري فيما يشير إلى الدور السلبي الذي تلعبه القرصنة وتزوير الأسطوانات الأصليّة. ويشرح بإسهاب الدورة الإنتاجية التي تربط المستمع بالمبدع، ودور الأوّل في ضمان استمرارية المبدع، إضافة إلى دور القانون في حماية الحقوق الفكرية في الصناعة الموسيقية.
وأخيراً، يتطرق المؤلف إلى علاقة الفلسفة بفنّ الموسيقى ثم يضيء على علاقة الموسيقى الدينية بالموسيقى الدنيوية وغيرها من الإحاطات الفنية والتاريخية والاجتماعية، تربط بينها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالموسيقى موضوعاً رئيساً.