باريس ــ عثمان تزغارت
•حرب الجزائر كما لم يجرؤ أحد على تصويرها

ليس شريطاً عادياً يضاف إلى قائمة الأعمال التي تناولت حرب الجزائر على الشاشة. فيلم فلوران سيري الإشكالي الذي استقبل بتحفظ نقدي يقابله نجاح جماهيري في فرنسا، يتفادى إعادة إنتاج الصورة المثاليّة لـ«جبهة التحرير»، مسلّطاً الضوء على انحرافاتها، وينكأ جرحاً قديماً غائراً في الذاكرة الجماعية الفرنسية

من كان يتوقع من سينمائي فرنسي شاب، انفتحت أمامه أبواب هوليوود فجأة، أن يعتذر عن إخراج فيلم مغامرات ضخم هو 4 Die Hard (بطولة بروس ويليس)، لتحقيق حلم يراوده من سنين، هو تصوير فيلم، يضاف إلى القائمة الطويلة التي سبقته، عن حرب الجزائر؟
هذا الرهان الذي رفعه فلوران إميليو سيري، لم يكن مضمون النتائج سلفاً، ذلك أن موضوع حرب الجزائر ما زال يشكّل جرحاً غائراً في الذاكرة الجماعية الفرنسية، على رغم مرور 45 سنة على نهاية الحرب واستقلال الجزائر. لكن قانون «محاسن الاستعمار» الذي استصدره البرلمان الفرنسي عام 2005 (ألغي لاحقاً بعد احتجاجات السياسيين والمثقفين من ضفتي المتوسط)، شكّل صدمة لسيري، ما دفعه إلى طرح كل شيء جانباً من أجل إنجاز الشريط.
كان هذا السينمائي لفت الأنظار بفيلمه «عش الدبابير» الذي أنجزه بموازنة متواضعة عام 2002 (بطولة ناديا فارس، وبونوا ماجيمال، وسامي بوعجيلة). وإذا بالنجم الأميركي بروس ويليس يكتشف الفيلم عام 2004، ويُغرم بأسلوب سيري، فيقترح عليه إخراج «الرهينة» الذي كان ويليس يستعد لأداء بطولته.
توثقت الصلات أكثر بين سيري وويليس بعد النجاح الذي حقّقه «الرهينة» في 2005، ما دفع استوديوهات «ميراماكس» إلى ترشيح سيري لإخراج الجزء الرابع من سلسلة أفلام Die Hard. وعلى رغم محاولات ويليس المتكررة لإقناع سيري بقبول المشروع، إلا أن المخرج إعتذر، مفضلاً الانصراف إلى مشروعه الطموح، ولو بإمكانات إنتاجيّة أكثر تواضعاً... وتحقيق فيلم يستعيد البشاعات المسكوت عنها في حرب الجزائر.
بعد قانون «محاسن الاستعمار»، اعتبر سيري أنّ الوقت حان لإنجاز هذا الفيلم الذي أراده أن يكون وثيقةً تاريخيةً تنقل للأجيال الجديدة صورة أكثر صدقاً ودقّة لممارسات الجيوش الفرنسية خلال حرب الجزائر. وهي صورة غير مشرّفة طبعاً، هناك مساع لا تحصى الآن في فرنسا (بدءاً بنهج الرئيس ساركوزي نفسه)، وإعادات نظر تحريفية يندرج ضمنها القانون المذكور، تعمل على طمسها بكل الوسائل.
هكذا وُلدت الفكرة الأصلية لـ «العدو الحميم» L’ennemi intime، لتتحقّق بفضل جهد جماعي رباعي لم يقتصر على المخرج فلوران إميليو سيري فحسب، بل شمل الكاتب باتريك روتمان الذي سبق أن ألّف كتاباً شهيراً عن «حملة الحقائب»، وهي التسمية التي كانت تُطلق على المثقفين والمناضلين الفرنسيين الذين وقفوا إلى جانب «جبهة التحرير» الجزائرية خلال الحرب. إلى هذا الثنائي انضم ممثلان مميّزان، هما بونوا ماجيميل وألبير دوبونتيل. وعمل الأربعة كفريق متكامل، فتشاركوا في كتابة السيناريو وحشد الموازنة الإنتاجية للفيلم. ومن نافل القول إنّ نجاح سيري الهوليوودي، أدى دوراً حاسماً في تجاوز العقبات الإنتاجية التي لم يعد بوسعها في هذه الحالة أن تعترض فيلماً ذا مضمون إشكالي مثل «العدو الحميم».
فماذا كانت النتيجة؟ قوبل الشريط لدى عرضه بكثير من التحفظ النقدي، حتى من الصحف الفرنسية المعروفة بمناصرتها حركات التحرر ومعاداتها للإرث الاستعماري، مثل «لوموند» و«ليبراسيون». إلا أن المفاجأة جاءت من الجمهور، إذ يلقى الفيلم حالياً نجاحاً شعبياً كبيراً ويُعرض في 350 صالة في مختلف أنحاء فرنسا.
أما في الجزائر، فاستُقبل العمل بحفاوة إعلامية بالغة طبعاً، علماً أن كثيرين كتبوا مشيدين به قبل أن يشاهدوه، ما يفسر لماذا غيّبت الكتابات النقديّة في الضفّة الثانية من المتوسّط، الجانب الإشكالي في العمل: أي الصورة التي قدّمها سيري للطرف الجزائري في الحرب. فهو لم يحذُ حذو غالبيّة الأعمال السينمائية المتعاطفة مع حركات التحرر في أسلوبها التمجيدي لجبهة التحرير الجزائرية، بل سلّط الضوء على انحرافاتها وممارساتها الدموية، ولا سيما العنف الذي مارسته على المدنيين الجزائريين: جدع أنوف المتقاعسين عن الانضمام الى الثورة، وتقطيع شفاه كل من يُضبط مدخّناً سجائر فرنسية الصنع، وذبح المشتبه في خيانتهم للقضية الوطنية.
وبين ضحايا تلك الممارسات هناك آلاف الطلبة المنضمّين الى الثورة ممن تمت تصفيتهم، لأن «العقلية الفلاحية» المسيطرة آنذاك على بعض قادة الثورة، كانت تنظر بعين الريبة إلى المتعلّمين، لكونهم مرشحين أكثر من غيرهم للخيانة، بحكم تأثرهم بثقافة العدو وإتقانهم لغته! وهذه كلها حقائق تاريخية لا تزال مسكوتاً عنها في الجزائر...
أما الخصوصية الأبرز للشريط، فتكمن في رصده السيكولوجي الدقيق للتحولات التي تحدث في أعماق الجنود الفرنسيين، حين يجدون أنفسهم طليقي الأيدي في أتون حرب الجزائر، ويُطلب منهم إخماد تمرد «الفلّاقة» الجزائريين بكل الوسائل.
لا يكتفي الفيلم بفضح ممارسات التعذيب التي كانت حتى فترة قريبة تمثل نوعاً من «التابو» في فرنسا، بل يُصوّر للمرة الأولى، بالنسبة إلى فيلم فرنسي، مشاهد قصف قرى جزائرية بأكملها بقنابل النابالم (سياسة «الأرض المحروقة»)، على رغم أنّ ذلك النوع من القنابل (سيستعمله الأميركيون لاحقاً في حرب فيتنام) كان (ولا يزال) سلاحاً محظوراً في المواثيق الدولية.
من خلال قصة جنود فرنسيين أرسلوا لمحاربة المتمردين في جبال القبائل الجزائرية، وعلى رأسهم قائد الدورية تيريان ذو «الفكر الإنساني» المغرم بكتابات بوريس فيان... يكشف الفيلم أنّ العدو الأكبر ليس ذلك الذي يحمل السلاح، بل هو «العدو الحميم» الكامن في أعماق كل واحد من هؤلاء الجنود... في كل وحش همجي كاسر لا يتورّع عن ارتكاب أفظع الجرائم، حتى إنّ بعضاً من هؤلاء الجنود الفرنسيين كضابط الاستخبارات بيرتو، كانوا مقاومين للاحتلال النازي لفرنسا، وتعرضوا للتعذيب على أيدي النازيين، وإذا بهم يتحولون بدورهم ــــــ من دون أي وازع ــــــ إلى جلادين يعذّبون مقاتلي حركة المقاومة الجزائرية!
أهم ما يميّز الشريط ابتعاده عن النظرة النمطية، والخطاب التسووي الجاهز. فهو لا يعنى بالمرافعة الفكرية أو الإدانة الخطابية للسياسات الاستعمارية، وما سببته من جرائم، بقدر ما يسعى إلى وضع الضمير الجماعي الفرنسي في مواجهة مسؤوليته عن تلك البشاعات، كاشفاً أن من اقترفوها ليسوا «وحوشاً بشرية» بل هم شبان تربوا على «القيم الإنسانية السامية»، لكن الزجّ بهم في أتون تلك الحرب الاستعمارية الدموية أدى إلى إيقاظ «العدو الحميم» الكامن في أعماقهم، ليغتال بوحشيته كل القيم التي تربوا عليها...