strong>عثمان تزغارت
بشائع حرب الجزائر التي سلّط عليها فلوران إميليو سيري الضوء في «العدو الحميم» ظلت حتى سنوات قريبة بمثابة «تابو» مسكوت عنه في الأدبيات الرسمية الفرنسية. حتى مطلع التسعينات، كانت هذه الأخيرة تنكر أن ما حدث كان «حرباً» وتكتفي بالإشارة إليه بتسمية ملتبسة هي «أحداث الجزائر».
لكن أصواتاً كثيرة ارتفعت منذ الأشهر الأولى لحرب الجزائر للتنديد بالجرائم الاستعمارية، ودعم حق الجزائريين في التحرر و«تقرير المصير». وقد أدى كتاب «السؤال» الذي كتبه تحت التعذيب عام 1958، القائد في الحزب الشيوعي الجزائري، هنري ألاق، دوراً ريادياً في توعية الإنتلجنسيا الفرنسية على حجم البشائع التي كانت ترتكب باسم بلادهم على الضفة الأخرى للمتوسط.
بعد الاطلاع على ذلك الكتاب المدوّي، اتخذ مثقفون فرنسيون بارزون في مقدمهم جان بول سارتر، مواقف مؤيدة للثورة الجزائرية. وكان بين هؤلاء، سينمائي شاب اسمه بيار كليمان. لم يكتف بتوقيع العرائض وبيانات التأييد للثورة الجزائرية، بل تأبط كاميرته واتجه إلى تونس طالباً من «الحكومة الموقتة للثورة الجزائرية» مساعدته لعبور الحدود بشكل غير قانوني، للالتحاق بمعاقل «المجاهدين» في جبال الجزائر. هناك، أنجز عدداً من الأفلام التوثيقية التي جابت العالم وأدّت دوراً طليعياً في التعريف بالقضية الجزائرية. ومن أشهرها شريط «ساقية سيدي يوسف» (عن البلدة الحدودية الشهيرة التي شهدت مجزرة استعمارية اختلطت فيها دماء الثوار الجزائريين ومناصريهم التوانسة).
وفي صيف 1958، حاصرت الجيوش الاستعمارية دورية من المجاهدين الجزائريين في الأوراس وألقت القبض على بيار كليمان «متلبّساً بالجريمة» وسلاحه (الكاميرا) في يده. وكاد السينمائي «المجاهد» يتعرّض للتصفية على يد جلاديه من قادة المظليين الفرنسيين الذين تحمّس أغلبهم لإعدامه، لأنهم رأوا في أفلامه بروباغندا متواطئة مع العدو. لكنّه احتُجز في نهاية الأمر في سجن سرّي، وتعرض للتعذيب، طيلة أشهر طويلة. ثم قُدّم للمحاكمة العسكرية وأدين بالسجن 8 سنوات. ولم يُطلق سراحه إلا بعد استقلال الجزائر.
وتشاء المصادفة أن يرحل السينمائي «المجاهد» بيار كليمان الذي خبر مرارة ذلك «العدو الحميم»، فيما يثير فيلم فلوران إميليو سيري النقاش في فرنسا، حول جرح لم يلتئم في الذاكرة الجماعيّة الفرنسيّة...