خليل صويلح
بعيداً من «جماعة كركوك» وتأثيراتها الستينية، سوف تصنع قصيدة سركون بولص حديقتها السرّية وثمارها اللاذعة.
شاعر من دون سلالة، يقف وحيداً بلا ضجيج إيديولوجي، لكنّه وصل باكراً إلى الوليمة عبر المنافي، من بغداد إلى بيروت... إلى سان فرانسيسكو. الآشوري الأعزل بدا مثل طائر غريب على شجرة الشعر. يكتب فاجعته الشخصية وجحيمه السرّي، بأقل قدر من الندم، فهو في نهاية المطاف يعيش لحسابه الخاص. لذلك ذهبت قصيدته باكراً إلى اختبار الذات بهدم متواصل للحميمي والعابر، والإنصات العميق إلى المرئي، لتنشأ مشهدية باذخة من دون مرجعيات صريحة، عدا إشراقات الداخل المحتدمة بالعويل «في صدري مائدة محطّمة، سكين شاردة تقود إليها ضيوفي».
في شعر سركون بولص، لن تهتدي إلى نقطة علّام ثابتة، ذلك أنّ قصيدته مثقلة بالتاريخ الشخصي والمنفى، وانخراط صريح في حمأة العالم واحتجاج علني ضد الهلاك عبر مشهد أو صوت أو أغنية. هذا السندباد الشعري صنع خريطة سرّية لمشاغله الشعرية والجمالية، وبات صعباً أن تلمس آثار خطواته. ألم يقل ذات مرة «هكذا صارت حياتي أشبه بجغرافيا لا يمكن تفسيرها». هي كذلك فعلاً. قصيدة وربما حياة لا تركن إلى سياج، فالقصيدة كما يقول، قد تضيع، إذا لم تجد الخيط الخفيّ و«الراوي لن يعرف القصة».
لكن ألم يكتب صاحب «حامل الفانوس في ليل الذئاب» طوال الوقت مرثيته الشخصية، منذ هجرته الأولى، فليس للآشوري وطن سوى الشعر «تطفح عزلتي مثل جرّة تحت حنفية الصمت. تقدم أيها الظل. اُدخل إلى بيتي وانهب ما تشاء».
حامل الفانوس كان يتلمّس طريقه في العتمة في تجربة عبور مستمرة، وربما لهذا السبب، لم تركن قصيدته إلى إطار أو سلالة، فالزمن هو من يصنع أقدار الشاعر في سفر دائم من وإلى «إيثاكا» للعثور عليها من جديد.
لا يشبه سركون بولص أحداً، لذلك ظل نصه عابراً للأجيال في ذاتيته وحسيته ومشهديته وطزاجته. فانوس في ليل الشعر العربي، تتكئ إلى ظلاله الأجيال المتعاقبة، وتتفق على فرادته من دون سجال، بعيداً من الجوقة. إذ لطالما أنشد الأغنية التي لم يكتبها أحد. أغنية الروح المتمردة في عزلتها الاضطرارية. هكذا «تذهب الأغاني، وتجيء المراثي. لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب».