بيار أبي صعب
«في الفجر الكابي غادرَنا سركون. يسهم خالد المعالي ومؤيد الراوي وبعض الأصدقاء في إجراء متطلبات الوداع. كأننا كنا نودّع معاً شاعراً وإنساناً كما قالت إحدى معارف سركون في برلين، يوم اختارت «الأخبار» أن تحتوي ملفاً يربّت على كتفه بحنوّ وهو يمضي... ــــ فاروق سلوم».
«البرقيّة» الإلكترونيّة الآتية من صقيع الشمال، تختصر الموقف. عراقيّ آخر يمضي وحيداً في غربته. شاعر ليس كالآخرين. من لندن صموئيل شمعون يردّد على الهاتف جملة كتبها أدونيس لتكون مقدمة كتاب لسركون تصدره «بانيبال» بالإنكليزيّة: «إني أحبّك يا سركون». يحزم الصعلوك حقيبته. «لا بد لي من ملاقاته في برلين». في المدينة التي اصطفاها عاصمة أيّامه الأخيرة، تجمّعت بالأمس حفنة من الشعراء والكتاب التائهين حول جسد شاعر. على المرتبة تمددت أجمل سنوات التيه العراقي، وقصيدة النثر العربيّة. من «جماعة كركوك» هناك ومؤيد الراوي وفاضل العزاوي. الكل منشغل بمسألة مهمة. أين يُدفن الشاعر؟ في أي وطن؟ ذات ربيع كتب سركون بولص، تلبية لطلب قاسم حداد في اليوم العالمي للشعر، رسالة نشرها موقع «جهة الشعر»، يقول فيها إن الشاعر وطنه الثاني القصيدة. لكن كيف ندفنك الآن في قصيدة؟ أيها العراقي البعيد عن بغداد، أيها البيتنك البعيد عن سان فرانسيسكو؟
هل كان سركون يعرف، بحدسه المعهود، أنّ أيامه معدودة؟ قبل أسابيع أدخل العناية الفائقة في أحد مستشفيات برلين. ثم تحسنت صحّته، لكنّه غادر سريره مخالفاً قرار الأطباء. لا وقت لديه يضيعه في المستشفيات. كان يريد أن يرتشف ما بقي له من الكأس. «الآن فقط بدأت أعرف كتابة الشعر ــــ قال قبل أيام لصديق ـــ فمن أين أتاني هذا الوهن اللعين؟».
سركون بولص هو الشاعر الذي خفف القصيدة من جاذبيتها... شاعر عراقي خرج على الغنائيّة، راح يصيخ السمع الى موسيقى خفيّة طالعة من أعماق النثر. هوائي وخفيف ومسافر، تسكن الأماكن نصه والمدن والحكايات القديمة. فالنثر مخزن الذاكرة، ذاكرة الآخرين أيضاً. «تكمن المشكلة في كيفية أخذ المفردات القديمة ووضعها في محيط جديد» كتب ذات يوم، و«لهذا السبب قد يجد المرء أثناء الكتابة، في منتصف رحلته أو قرب نهايتها، أنه طوال الوقت كان يسافر صوب إيثاكا، وأنه إنما تركها من أجل العثور عليها من جديد». إيثاكا هي أيضاً «مدينة أين» التي يمم شطرها عمراً كاملاً... ولا نعرف إن كان قد وصلها. أم أنه يتركها لقرّائه يقصدونها عنه؟ الرحلة الطويلة حقاً كانت هادئة، خافتة رغم صخبها الداخلي: من «ريف» كركوك إلى مقاهي بغداد المزدحمة بأحلام الستينات، ومن سراب الحداثة في بيروت إلى «الوليمة العارية» التي دعاه إليها وليم بوروز ذات يوم. كنا نعتقد أن أميركا هي مأواه الأخير، حين أخذه العطش إلى أوروبا... «على الطريق» مجدداً، على خطى الوقت الهارب. «هكذا صارت حياتي، أشبهَ بجغرافيا/ لا يمكنُ تفسيرُها/ بالمواقع ِ والأماكن، وصوتُ أيّامي/ لم يعُد قابلاً للتبنّي/ من قِبَل ِ أزمنة الآخرين».
في الفترة الأخيرة تغيّر كلّ شيء. القلب ضعيف، والوجدان مثخن. والوطن الأول يشبه أحلام المراهقة المنسيّة في «سينما سندباد» المهدومة. والمرض الغامض قد لا يكون له ذكر في كتاب الطب، بل في مدوّنات القدماء وأساطير الملوك الآشوريين، وأحوال الشعراء الكبار. إنّه «وجع العصر». كان من المقرر أن يعود سركون إلى سان فرانسيسكو يوم السبت 27 الجاري. أجّل السفر أسبوعين، شيء ما كان يشّده إلى تلك المدينة. لعلّها أطياف «جمهوريّة فايمار» عشيّة الكابوس النازي، مدينة الكوبرا والباوهاوس والدادائيّة، أوتو ديكس وبيسكاتور وبريخت وكورت فايل... وعدد لا يحصى من خلانه. برلين هي فينيسيا (البندقيّة)، هنا أراد أن يموت، كما بروفيسور توماس مان. وحده وسط سحابة من دخان... عند مفترق الطرق بين عوالم وأزمنة متضاربة.
ملائكة برلين تسرّبت من فيلم فيم فندرز، أخذته بيده ومضت بعيداً. بعيداً... أبعد من العراق. Salut Beatnik !