فاروق سلوم
وهو يتعافى، كان سركون بولص فرحاً بعدد «الأخبار» التي كرّست له ملفّاً، وكان كمن يكتشفنا لأول مرة ونحن نقول فكرتنا البسيطة والحميمة عن شعره. لم يكن يظن أنّ ذلك عزاء، كان يظن أنّنا نمارس سطوة المحبة في الشعر.
وفي اليوم التالي، كتبت الروائية عالية ممدوح لنا: «إنكم تكتبون كلمات بكائنا النهائي على سركون الذي نحب» في تعليق على ملفّ «الأخبار». لكنّنا لم نصدق، واعتبرنا ذلك نواحاً من عالية ممدوح الروائية والصديقة. وفي فجر أول من أمس، كتبت لنا بعدما سمعت الخبر: «أما وقد سطرتم نعيه بمحبتكم، ماذا سنفعل بموته اليوم؟».
ومذ غادر الشاعر العراقي سركون بولص بلاده من دون هوية أو بطاقة سفر، كان يكتب رثاءه وهو يمارس تقريظ الوقت على سنواته. رحل وهو يحمل حلم السينما والشعر والترجمة من عزرا باوند الى إيليوت إلى شعراء الـ«وود ستوك». هو المتعاطف والمنتمي الى حركة الهبيز فلسفياً وفنياً مثلما جيل الـ«بيتنكس». رحل وهو يحمل فكرته النهائية عن ديوان ممكن.
حين خططت مجلة «بانيبال» التي ترأس تحريرها مارغريت اوبانك والكاتب صموئيل شمعون لإصدار ديوانه «شاحذ السكاكين»، راح يرفرف فرحاً كأنه لم ير كتاباً يصدر له من قبل، فرح يعيدنا إلى اللحظة التي باركه فيها يوسف الخال في بيروت الحب والجنون أواخر الستينيات، حين كلفّه بإعداد ملف عن جيل «البيت» الأميركي.
كتب أدونيس مقدّمة ديوانه المنتظر بالإنكليزية، لكنّه لم يسمح بترجمة مقدمته أو نشرها قبل أن تصدر في طبعة الكتاب، وكان سركون بولص يرى في تقريض أدونيس نوعاً من الوفاء وتكريس الجمال الذي أهرق سركون سنواته الثلاث والستين: «زمني ركض في قبعته/ زمني غير مكترث بوعائي، ببوقي الأخير/ وأنا اعزف هذا الناي السحري/ حيث نمضي معاً في الرحيل إلى...».
لم يرد أن يسجل نهاية رحلته. كما أنّه لا يهرب من أقداره المتتالية، لكنه يظن أنّ صديقته الألمانية الحانية وتفاصيل التاريخ من حوله في برلين ستسعفان ذاكرة الأقدار لتتذكّر صفاته: «أعرف كم هي باكية هذه الجرمانية/ لا تقول الكلمات.. مقلة في اكتراثها/ مكثرة في القلق».
ويحدب على قصائده المختارة بعناية من مجاميعه، مما نشره في بيروت في الستينيات وفاء لوجهها، وجه بيروت: «وجهك واقف عند منعطف شارع الحمرا/ وجهك على الزجاج في المقهى/ هل تذكرت أغنية ماري هوبكز: كانت أياماً/ كم بكينا / يا بيروت».
كان بعضهم لا يرى في سركون سوى المترجم الفذ، وذلك ظلم من أقرب الناس إليه. لكنّ الشاعر الذي أضاف للشعر العربي بترجماته المتميزة لعذرا باوند، وأودن، وسيلفيا بلاث، وغينسبرغ، ونيرودا، وريلكه... أوضح علاقته بهم: «أكتب بلغتي عنهم/ أكتبهم في بابلونيا اللغات/ وأميّز كلماتهم الخالصة/ وكأني استعيد تيجانهم/ وهم يجلسون على عروش الموت البعيد/ لأني أحبهم... افعل الكثير».
ثم كتب شهادة عن أبناء جيله في مطولة «ألف باء موتي»: لست وحيداً... ولأني لم أغضب/ أبصرهم في ملكوت الضآلة/ وهي كون ابتنوه باللغة والصياغات الفجة/ أصنع ميزة الشعر لكي لا يسقطوا/ لكنهم في كل مرة يحملونني إلى طينهم/ وأغفر أكتب مطولة موتي كمن يكتب موتهم/ لأني أعطف على ضعف صورتهم/ وأبكي تكسر الصورة التي بنتها الليالي المعتمة».
سركون بولص يترك لنا قصائده المختارة بالإنكليزية، في ديوان «شاحذ السكاكين»، كمن يترك وصيته ويرحل، صارخاً في آخر حكاياته: «لا تلوموا أحداً/ كلهم أبناء الخراب القديم الذي كان على الشعر أن يعيد بناءه».