strong> نجوان درويش
• بحثاً عن وائل زعيتر في جراح الذاكرة الخصبة

فوزها بجائزة «الأسد الذهبي» في «بينالي البندقيّة» (فينيسيا)، يمكن اعتباره تكريساً لجيل كامل في الفن الفلسطيني (والعربي) المعاصر. كأننا بإميلي جاسر تثأر في تجهيزها للكاتب والمناضل وائل زعيتر في الذكرى الـ35 لاغتياله على يد الموساد


ليست جائزة «الأسد الذهبي» التي حصلت عليها إميلي جاسر في الدورة الثانية والخمسين لـ«بينالي البندقية» (فينيسيا)، مجرد جائزة عالميّة مرموقة تكون للمرّة الأولى من نصيب فنّان عربي، أو بالأحرى فنانة عربية، هي فوق ذلك دون الأربعين. لهذه الجائزة التي أعلن عنها في الجزيرة الإيطالية الشهيرة قبل أيّام، دلالة تتجاوز قيمتها الفنية. إذ إنّها جاءت في الذكرى الخامسة والثلاثين على اغتيال الدبلوماسي والأديب الفلسطيني وائل زعيتر (17/10/1972) في روما على يد الموساد الإسرائيلي. وعمل جاسر الفائز «مادة من أجل فيلم» هو تحديداً عن اغتيال وائل زعيتر، وعن كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي كان يعمل على ترجمته إلى الإيطالية، وفيه استقرّت إحدى الرصاصات الـ12 التي أطلقها عليه القتلة الموساد أمام باب منزله في روما. يومها، كان وائل عائداً إلى شقّته المتواضعة متأبطاً بعض الكتب وخبزاً حين أطلقت عليه تلك الرصاصات، لتكون فاتحة موجة من الاغتيالات نفذتها إسرائيل منذ السبعينات بحق مثقفين وكتاب فلسطينيين.
مشروع «مادة من أجل فيلم» الذي بدأته جاسر عام 2005 كمشروع متواصل in progress، قائم على البحث. يبدو العمل الفني هنا تقصّياً للمصائر، وبحثاً فيها، تماماً كما هو الأمر في العمل الروائي الذي يتابع مصير شخصياته ويكشف الجزء الضائع من حيواتهم. عمل جاسر التجهيزي الذي يجمع بين الفوتوغرافيا والسينما والأصوات والمواد الأرشيفية، يكاد أن يكون «ثأراً» ـــــ بالمعنى الفني ـــــ لوائل زعيتر الذي أثار اغتياله استنكاراً لم تخف حدته رغم مرور 35 سنة على تلك الجريمة. ولهذا السبب أيضاً، استُقبل خبر فوزها بـ«الأسد الذهبي» بفرحة مضاعفة: إلى جانب كون الجائزة المرموقة تعزيزاً لمكانة الفن العربي والفلسطيني؛ فهي تحية حقيقية لروح وائل زعيتر وفكرته وقضية فلسطين التي تقع في القلب منهاإميلي جاسر بحثت عن وائل في كل مكان تقريباً. قصدت أصدقاءه وصديقاته في إيطاليا بعد أكثر من ثلاثين سنة، وبحثت عن كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي كان مع وائل لحظة اغتياله. ثم صوّرته واستعملته في عملها التركيبي الذي وضعت فيه ألف مجسم لكتب لا كلمة فيها سوى ثقوب رصاص أحدثتها الفنانة بنوع المسدس نفسه الذي استعمله الموساد لدى اغتيال زعيتر. وقبل هذا أو ذاك، ذهبت إميلي إلى شقيقته نائلة في نابلس، وتفحّصت البيت الذي قضى فيه وائل طفولته. وفي روما، قضت ساعات في شقته في ساحة أنيباليانو في الطبقة السابعة من عمارة رقم 20. التقطت صوراً لتفاصيل رئيسية وهوامش في تقصّ مرّ لأثر ذلك العابر الذي شهد له معاصروه بالنقاء الثوري، وبطفولة مفرطة في الوقت ذاته. باختصار، لقد عاشت معه كما يفعل روائي مع شخصية قرر أن يتقصى مصيرها إلى النهاية.
وقد كان للسينما ــــ التي بنت جاسر عليها فكرة تجهيزها ــــ أن تذكّر بتلك الجريمة البشعة بحق إنسان لم يحمل سلاحاً، ولم يمتلك في حياته سوى الحب والكلمات. فيلم «ميونيخ» لستيفن سبيلبرغ الذي يصوّر مشهد اغتيال وائل زعيتر، أعاد إلى دائرة الضوء ذلك المثقّف الاستثنائي الذي استطاع بخصاله الشخصية النادرة أن ينسج مجموعة كبيرة من الصداقات مع اليسار الإيطالي، ومجموعة من الكتّاب والمثقفين الإيطاليين ممن كان وائل مدخلهم إلى القضية الفلسطينية. ولعلنا نتساءل عن علاقة عمل إميلي بفيلم سبيلبرغ الذي قدّم رواية فلسطينية ناقصة بحسب النقد الفلسطيني للعمل يومها. ربما يكون ذلك «النقص» ما استفز الفنانة ودفعها إلى التفكير بتقديم رواية فلسطينية لمعنى حياة وائل زعيتر واغتياله من خلال مجاز «ألف ليلة وليلة»
بدأت قصة العمل، كما تقول جاسر، من خلال فصل أُدرج في كتاب أصدرته صديقة لوائل هي جانيت فين برون عام 1979. كان عنوان الكتاب «من أجل فلسطيني: تذكار إلى وائل زعيتر»، فيما عنونت الفصل «مادة من أجل فيلم لإليو بيتري وأوغو بيررو». وهو عبارة عن حوارات أجريت مع أشخاص عرفوا وائل أثناء حياته في روما، بينهم صديقته جانيت نفسها. وقد كان هذا الفصل ـــــ وهو في الأصل مشروع فيلم لبيتري وبيررو» ـــــ نقطة انطلاق إميلي في مشروعها الفني. ذلك الفيلم لم ينجز لأن إليو بيتري سرعان ما توفي. وقد جاءت إميلي جاسر في عام 2005 لتواصل بطريقة ما فكرة الفيلم... أو بالأحرى لتواصل جمع المادة اللازمة كمن يعيد لملمة حياة مغتالة لم يتوافر لها وقت كاف لجمع نفسها. وحياة وائل قد تكون استعارة عن الحياة الفلسطينية بأكملها.
ولدت إميلي جاسر في بيت لحم عام 1970، ونشأت في السعودية وأكملت الدراسة الثانوية في روما. ثم استكملت دراستها الجامعية بين ولايتي تكساس وتينيسي في الولايات المتحدة. وهي تعيش اليوم بين نيويورك ورام الله، حيث يمكنك أن تصادفها في أحد مقاهيها أو في افتتاح معرض ما. أما رام الله، طفلة أوسلو غير المدلّلة بل المنتهكة، فكان لها نصيب من أعمال إميلي، وخصوصاً الدراما العنيفة التي تحاصرها.
«عبور سُردا» (تجهيز فيديو ــــ 2002) يسجّل تجربة إميلي في عبور حاجز سُردا الذي طالما نكّل بأهالي ثلاثين قرية محيطة برام الله، بينهم طلاب جامعة بير زيت. وفي عام 2003، قدّمت جاسر، التي تبدو «مختصة» في رصد الدراما الفلسطينية وتصعيدها في أعمال تثير الاهتمام عالمياً، عملاً لافتاً بعنوان «من أين نأتي؟» بدأته بسؤال مَن لا يستطيعون بلوغ فلسطين والتجول فيها بحرية، عمّا يمكنها أن تفعله نيابةً عنهم (بفضل جواز سفرها الأميركي الذي يتيح لها حرية الحركة). تلقت بعض الطلبات المؤثرة المتباينة ونفذتها جميعاً. كانت كل مرّة تسجل نص الطلب وتلتقط صورة تعبّر عنه مع تجربتها الشخصية في تنفيذه: مِن قطف برتقالة في بيارة وأكلها في البيارة نفسها... إلى ريّ شجرة في قرية مهجّرة، و«الذهاب إلى حيفا ولعب كرة القدم مع أول طفل فلسطيني تلتقيه في الطريق»، كما طلبت منها هناء المولودة في بيروت والمقيمة في هيوستن. وها هي إميلي تبدو في سلسلة صور تلعب مع طفل اسمه كامل في حيفا... لعل هذا اللعب هو البقية الباقية من وطن يتناقص كل يوم...