strong>نجوان درويش
حظي مشروع تيسير البطنيجي «آباء»، باهتمام خاص منذ عرضه الفنان الفلسطيني الشاب لأول مرة عام 2006. على رغم أنّ البطنيجي (غزة 1968)، الذي يعدّ من أبرز الأسماء الفنية الفلسطينية، أنتج بالتزامن مع «آباء» مجموعةً من الأعمال اللافتة التي لا تقل أهمّيةً عنه، إلا أنّ هذه المجموعة الفوتوغرافيّة شدّت الاهتمام أكثر من أي عمل آخر. وها هي غاليري Talmart الباريسية تصدر تلك السلسلة التي التقط البطنيجي كليشيهاتها في غزّة قبل عامين، في كتاب فني يحمل الاسم نفسه. ويتزامن الإصدار مع افتتاح معرض «آباء» هذا المساء في الغاليري الباريسية المذكورة، حيث يستمر حتى 24 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
جاءت فكرة المشروع أثناء تجوال الفنان في الإسكندرية. يومها، لاحظ صور الآباء معلّقةً في المحال التجارية والورش والمقاهي. هكذا، تفاعلت هذه الصور مع سؤاله الشخصي عن كُنه «الأب». وتلك هي الفكرة الأساسية في أعماله، أي «حضور الغياب» كما يسمّيها، وهي تبدو اسماً آخر لسؤال الموت وفناء الكائن والمحاولات الفنية اللا نهائية للإمساك بشيء ما! عُرضت المجموعة في غزة ورام الله والقدس والقاهرة العام الماضي، وها هي «عصبة الآباء» تبلغ باريس، المدينة التي يقيم فيها البطنيجي مشدوداً إلى غزة بحبل سرّة خفي يصعب انقطاعه.
التقط تيسير كليشيهات فوتوغرافية لصور الآباء التي تتصدّر الأماكن العامة، مبرزاً الحيّز الذي يُظهر تلك الصور. إنها صور «أرباب المكان»، كالورش والدكاكين والمحال التي قد يكون جزء كبير منها موروثاً من هؤلاء الآباء الغائبين. تعليق صورة الأب إشعار بغيابه وترميز إلى حضور هذا الغياب في حياة الذين علّقوا الصورة. لا بد من أن الكثير من هؤلاء الآباء هم من اللاجئين، وإن لم يفصح العمل عن ذلك مباشرة. فكرة اللجوء متوارية، لكنها موجودة. فلولا النكبة لما كان الحيّز هو نفسه، ولما كانت «غزة» أيضاً كما نراها اليوم، ولكانت للآباء هيئات مختلفة وحيّز عرض مختلف. أما الفكرة الفنّية للعمل فتتمحور حول «الصورة داخل الصورة». هنا يعاد إنتاج صور الآباء وفق الحيّز الذي تحتله الصور. نرى صورة أب معلّقة فوق ساق ذبيحة في ملحمة، وصورة آخر تحت علب الكبريت في بقالة، وهناك أب رصين للغاية على حائط مهترئ لورشة ما. أحياناً كأنما دون قصد، نرى في إحدى الصور، وتحت صورة الأب، «بوسترات» لصدام حسين والشيخ أحمد ياسين مع راشيل كوري.. بينما ينفرد ياسر عرفات بصورته وحيداً معلّقاً في مكتب قاتم وشبه معتم. وفي صورة أخرى، يظهر «بوستر» له (مذيّل بفخامة الرئيس ياسر عرفات) معلّقاً بخطّاف في ملحمة اسمها «مذبح الإخلاص». صورة واحدة لجمال عبد الناصر إلى جانب شهادات قديمة فيها مرور هائل للزمن. طبقات ومستويات عدة من «الآباء» قد تبدو بحثاً ذا أبعاد سوسيولوجية وسياسية. لكنّ هناك أمراً لا يعلنه الفنان قد يغيّر مجرى التلقي؛ ألا وهو أنّ أباه الشخصي توفي قبل أشهر من بداية العمل عام 2004. في كل أعمال البطنيجي، هناك سيرة مخبّأة، وتكاد أعماله تكون بيوغرافيا دائمة. لكنه يموّهها دائماً ولا «يكتشفها» إلا من يعرفون حياته عن كثب. بالطبع هذا لا يمنع من قراءات مختلفة للعمل الذي قد يكون تسجيلاً لغياب الفكرة الوطنية، وقد دخلت طريقاً مسدوداً... وربما شهادة على نهاية زمن «الأبوات» في المشروع الفلسطيني.
أما عن «سرّ» الاهتمام بـ«آباء»، فترى إحدى «كاهنات» الفن، الفرنسية كاترين دافيد، المتحمّسة لتجربة البطنيجي، أنّ «قوة هذه الصور تكمن في ما تخفيه، بقدر ما تكمن في ما تُظهره. أو بصورة أدق، في ما تطالب به من تباعد لا مفر منه بين قراءات وتفسيرات مختلفة في غزة وفلسطين وفي أماكن أخرى». وتشرح دافيد أنّ «هذه المسافة المحيّرة والمفروضة بين القراءات المختلفة للصور ـــــ التي هي من كلية الحداثة ـــــ تعيد طرح سؤال تاريخية الصراعات، بينما تسعى فكرة «فن معولم» إلى جعلنا نتخلى عن ذلك السؤال». إذاً، فشغل البطنيجي ـــــ كما تراه دافيد ــــ يعيد طرح سؤال تاريخية الصراعات، و«يقاوم» فكرة الفن المعولم. وهي ترى أيضاً أن «البطنيجي يقدم سرداً تسجيلياً ومتخيلاً في الوقت نفسه للأحداث، بما يفارق التمثيلات المعهودة للمنطقة، تلك التي تضخّها الميديا المعولمة».
أحياناً يتحدث فنان ما عن أبيه أو أمه، فنجد أنه تحدّث عن الآباء والأمهات كلّهم. أما البطنيجي، فيبدو أنّه ذهب إلى فكرة الآباء المعلّقين في حضرة الغياب، كي يتدارك غياب أبيه أو يتأكد منه. لكنّ العولمة كانت مثل زوجة الأب، تتابعه عبر شوارع غزة، معترضة طريقه، زاعمة أنّها صاحبة الإرث كلّه!


www.talmart-editions.eu
Galerie Talmart
22- rue du Cloître Saint-Merri
75004 PARIS
Tel : + 33 (0)1 42 78 52 38