محمد خير
قصر مهجور، هدّم الأطفال سلالمه عمداً. في الدور الثاني، قسّم الأولاد أنفسهم وتوزعوا على الغرف. هذه الغرفة لمن هم دون العاشرة وتلك للفتيات المراهقات، وهذه للزعماء. في عتمة الليل، يعدّ الأطفال غنائمهم ويتعاطون مخدراتهم ويمارسون «شذوذهم» عن طريق زعيمهم كريم. يتمكّن مصطفى من تسجيل عالمهم الغرائبي، مع أنّه يعلم في قرارته أن الفيلم الذي يصوّره عن أطفال الشوارع لن يبصر النور.
اعتاد طوال حياته ألا يكتمل بين يديه أي مشروع، العيب في داخله أم في الخارج؟ لا يعرف وليس مقدراً له أن يعرف. إذ يقرر أن يفعل مثل صديقه الأقرب عصام، يتجه نحو نهايته برأس مرفوع مثل البجعة التي تشعر بدنو نهايتها، فتتجه إلى المحيط وتغرد تغريدتها الوحيدة قبل أن تموت.
في روايته «تغريدة البجعة»، يجعل مكاوي سعيد من بطله مصطفى محوراً يرتكز عليه ثم يقدّم عبره أكبر قدر من التجسدات لهذا البطل الذي أضاع كل الفرص. شخصيات عديدة تتقاطع في حياته، رجال ونساء لا يبدو أيُّ منهم متصالحاً مع حياته.
كلهم يقاومون لفترة ثم ينهارون كل على طريقته. وبينهم مصطفى الذي لم يفعل شيئاً. لم يصبح فناناً معروفاً مثل صديقه عصام، ولا سياسياً ثورياً مثل صديقه أحمد الحلو. أعجزه الخوف والتردد وقلة الثقة وشعور اللاجدوى، فهل حقق صديقاه ما كانا يصبوان إليه؟ كلاهما «انجذبا» الأول ليصبح صوفياً منعزلاً، والثاني يرتدي عباءة التطرف ويترك عمله ويحجّب ابنته ذات السنوات الأربع.
يدرك مصطفى من مصير صديقيه أن الطريق كانت مسدودة على جيله أينما توجه. فلا يعود يبالي بمصير أحد، لأنه تيقّن أن مصيره أسوأ من مصائرهم جميعاً. هو العاشق الذي يخشى المسّ بسمعة ذكورته، تنويع آخر على مشكلة الثقة، النساء يعبرن حياته فلا يقدر ترك أيٍّ منهن ولا التمسك بواحدة. يبحث فيهن عن مثال حبيبته الأولى: هند التي رحلت في حادث عبثي وتركته غير قادر على الاكتفاء بجسد أو بحب، هي المثال الذي لم يُختبر والخيال الذي ترك علامته على جبين الواقع.
الرواية التي صدرت طبعتها الثانية عن «الدار» (القاهرة) بعد أشهر من طبعتها الأولى، يعتمد فيها المؤلف أسلوباً سردياً سلساً وممتعاً، ويتخذ من منطقة وسط البلد مركزاً للحكايات التي تمتد عبر أنحاء المعمورة، ويتماس مع الأحداث السياسية عبر أعين البطل المتردد الذي يلاحقه كابوس إلقاء شخص من عل حتى يصبح مشاركاً في جريمة، طرفاها الشمال والجنوب، الغنى والفقر، الأمل والعدم، وهو بين كل ذلك كعادته متفرج عاجز عن أدنى فعل.