طنجة ـــ ياسين عدنان
كنّا ننتظر تألق المخرجين الشباب في الدورة التاسعة من «المهرجان الوطني للفيلم المغربي» الذي اختتم أوّل من أمس في طنجة. لكنّ النتائج جاءت مفاجئة تماماً، إذ أعلنت عودة الرواد إلى الواجهة. وكانت الجائزة الكبرى للمهرجان من نصيب فيلم «القلوب المحترقة» لأحمد المعنوني الغائب عن الساحة منذ 1982 منذ شريط «الحال» الذي عدّه مارتن سكورسيزي من دُرر السينما العالمية. وعادت جائزة لجنة التحكيم إلى أحد رواد السينما المغربية لطيف لحلو عن فيلمه الجريء «سميرة في الضيعة» الذي طرح مشكلة العجز الجنسي. كما انتزع الفيلم جائزتي أفضل دور رجالي (محمد خيي)، ثاني دور رجالي (يوسف بريطل). أما المخرجون الشباب فوزي بن سعيدي ونرجس النجار وداوود أولاد السيد وغيرهم فخرجوا من مولد طنجة بلا حمص، بعدما فاجأ الرواد الجميع بعودتهم القوية إلى الواجهة.
في «القلوب المحترقة» يعود أمين المهندس الشاب الذي يقيم في فرنسا، لزيارة خاله المحتضِر في المغرب. بعد انقطاع التواصل أكثر من عشر سنوات، يجد البطل نفسه مرغماً على الغوص من جديد في ذكريات طفولته الأليمة. اللقاء مع الخال القاسي الذي تبنَّاه بعد فقدان والدته، سيتحوّل إلى مواجهة على فراش الموت، بسبب الألم الذي يحمله أمين المثقل بأسئلة عن أمه المشكوك في «عِفَّتِها».
يتأرجح فيلم المعنوني بين مستويين: الحياة اليومية التي تبدو روتينية منساباً فيها الكثير من الطرافة، والبعد التراجيدي الذي يبقى مختبئاً، لكنّه يخترق الحكاية بكاملها. الشخصية الرئيسية لا تسير في خط أحادي، بل تقودنا من البساطة إلى التعقيد، ومن الجمال إلى الالتباس، ومن الصمت إلى الكلام، ومن المحيط الجماعي برحابته وصخبه إلى تلك الشرنقة الباردة والمغلقة التي يختبئ داخلها البطل. أما فاس، مسرح الأحداث، فهي هنا بالتأكيد أكثر من مدينة، إنّها أرضيّة المجاز الواسعة التي تحتضن الذاكرة الجريحة.
أما السؤال النقدي المستهلك حول وجود «سينما مغربية أو مجرد أفلام لمخرجين مغاربة»، فبدا هنا خارج الموضوع. الكم الهائل من الأفلام المتبارية على جائزة طنجة (25 فيلماً طويلاً و28 قصيراً) جعلت المنظمين يلغون الندوات، فاكتفى الجمهور والفنانون بجلسات صباحية لمناقشة الأفلام التي احتلّت مكان الصدارة. والمؤكد أنّ تعدد اللغات والأساليب والاختيارات الفنية والثقافية التي ميزت أفلام هذه الدورة، أعطت لموعد طنجة ملامح دوليّة أكيدة.
المخرج إدريس اشويكة قدّم «لعبة الحب» باللغة الفرنسية، فيما هيمنت لغة موليير على أفلام عدّة أخرى مثل «ثابت أو غير ثابت» لنبيل لحلو، و«الإسلام يا سلام» لسعد الشرايبي، و«ياسمين والرجال» لعبد القادر لقطع. أما المخرج المغربي الشاب أحمد زياد المقيم في أميركا، فلم يتردد في كتابة فيلمه باللغة الإنكليزيّة، واشترك فيه ممثلون مغاربة وأميركيون. علماً بأن المغرب هو في صلب البناء الدرامي للفيلم الذي ينتمي على طريقته إلى السينما المغربية.
وتنوّع هذه السينما عزّزه شريط بعنوان «تليلا»، هو أول فيلم أمازيغي طويل يشارك في المهرجان الوطني، ويحمل توقيع المخرج محمد مرنيش. وتنوّعت اللهجات المغربيّة أيضاً بين لهجة أهل فاس الأندلسية المُعتَّقة في «القلوب المحترقة»، ولهجة الدار البيضاء الجافة والمباشرة في «أبواب الجنة» و«ياسمين والرجال»، ولهجة اليهود المغاربة الطريفة التي تنطق السين شيناً والقاف ألفاً في «فين ماشي يا موشي؟» لحسن بن جلون (جائزتا أفضل صوت وتصوير)، و«وداعاً ايتها الأمهات» لمحمد إسماعيل. الفيلمان يتناولان تهجير اليهود المغاربة إلى فلسطين بعد الحرب الثانية.
والتعدد الفني والأسلوبي الذي ميّز هذه الدورة، يشمل مختلف أجيال السينما المغربية. في «ملائكة الشيطان» (أفضل موسيقى)، قدّم أحمد بولان دراما اجتماعية مستوحاة من محاكمة حقيقية لـ 14 موسيقياً شاباً من عشاق الـ«هارد روك» والـ«الميتال» اتُّهموا بعبادة الشيطان وزعزعة عقيدة المسلمين. عرف بولان كيف يستثمر الجانب التوثيقي لقضية التفت حولها الحركة الحقوقية المغربية والمجتمع المدني، وشنّ هجوماً عنيفاً على القوى المحافظة في أجهزة السلطة والقضاء. المخرج المسرحي نبيل لحلو تناول بدوره قضية رأي عام في «ثابت أو غير ثابت» (أفضل سيناريو) بأسلوب تجريبي قائم على التغريب. استعاد لحلو فضيحة ضابط المخابرات العميد مصطفى ثابت التي تعود إلى مطلع التسعينيات. قضية المسؤول الأمني المتورط في جرائم اعتداء جنسي، صارت مجرد ذريعة لمحاكمة المجتمع، ومجرد محاولة لمسرحة السرد السينمائي.
وفي المقابل أفلام بولان ولحلو وإسماعيل وبنجلون التي تستند إلى أحداث واقعيّة، تقف أفلام مثل «عود الورد» (لحسن زينون) و«القلوب المحترقة» (أحمد المعنوني)، اللذين اعتمدا كتابة سينمائية شديدة الذاتية. المعنوني يرسم بحبر الذاكرة ومداد الحنين في فيلم بالأبيض والأسود صورة شاعرية لفاس في كتابة سينمائية عذبة توسَّل خلالها اللحن والموسيقى وكلام المجاذيب والشعر الشعبي والدندنات. أما زينون، الآتي من الرقص التعبيري، فيحتفي في فيلمه الأوّل بالموسيقى وبآلة العود. فيلم زينون الذي تدور أحداثه في مغرب العشرينيات، يحكي قصة الجارية عود الورد التي اتخذت من العزف وسيلة لتحرير الروح والجسد من حياة الرق وإكراهات العبودية (أفضل دور نسائي لسناء العلوي، وأفضل دور نسائي ثانوي لحنان زهدي).
أفلام أخرى قدمت بدورها تنويعات لافتة على مستوى الموضوعات والسرد مثل «الإسلام يا سلام» لسعد الشرايبي الذي يطرح مشكلة نظرة الغرب إلى الثقافة العربية الإسلامية، و«ريح البحر» الذي احتفى بفضاءات طنجة وأصيلة في سرد ذي رهافة جميلة رغم السياق التجاري للقصة: صراع بين أحد أباطرة المخدرات وقرية للصيادين، وفيلم «في انتظار بازوليني» لداوود أولاد السيد الذي يحكي قصة كومبارس شارك في «أوديب ملكاً» الذي صوّره بازوليني في الجنوب المغربي (1966) ونسج صداقة معه ظل وفياً لها، رافضاً تقبل فكرة موت المخرج الإيطالي الكبير. يحكي أولاد السيد، بروح ساخرة ،معاناة الكومبارس في الأفلام الأجنبية التي تُصوَّر في المغرب. ويقدّم شريطاً جميلاً يستمدّ شعريّته الخاصة من قسوة الجنوب المغربي القاحل والمُتصحِّر.