بشعره الأسود الكث الذي جففته رياح الصحراء وعينيه السوداوين اللتين تحاولان عبثاً إخفاء الرقة الكامنة فيهما، يراقب الطفل «ذيب» بفضول حذر العالم المحيط به ويصارع ليشبه اسمه، وليس «ذيخ» كما يلقبه الرجال للسخرية منه. ذلك هو الممثل الصغير الموهوب جاسر عيد بطل فيلم «ذيب» للمخرج الأردني ناجي أبو نوار الذي يعرض حالياً في الصالات اللبنانية بعدما حصد الجوائز في العديد من المهرجانات منها «البندقية» و«بلغراد»، و«أبوظبي» و«القاهرة».
التقدير الذي حظي به الشريط ليس اعتباطياً، فهو بمثابة المفاجأة الجميلة التي تقدمها السينما الأردنية للمشاهد. وإذا كان الفيلم وصف بـ «الويسترن» الأردني لأسلوب التشويق الذي يعتمده في بعض المقاطع بخاصة تلك التي تصور المواجهات في الصحراء، فذلك لا يفيه حقه تماماً. العمل يعبر عن خصوصية المنطقة والصحراء العربية... تلك البطلة الرئيسة الحاضرة بكل تفاصيلها التي يبث فيها المخرج الحياة. تمتزج مع جسد الشخصيات حتى تصبحا واحداً. تدور أحداث «ذيب» في صحراء الأردن أثناء الحرب العالمية الأولى، إبان الثورة العربية الكبرى. يصور لنا المخرج تفاصيل الحياة اليومية للطفل «ذيب» وعلاقته بأخيه الأكبر «حسين» الذي يهتم به منذ وفاة الأب. يسعى إلى تقوية عوده كي يدخل عالم الرجال، بدءاً من تدريبه على السلاح إلى ذبح الماعز. أمر لا يقوى عليه «ذيب» رغم إلحاح الأخ. منذ البداية، نقف أمام لغة سينمائية خاصة ومبتكرة تجعل الصحراء عنصراً مهماً في السرد السينمائي. يتناول المخرج لقطات تفصيلية تصوّر القسوة التي تلتصق بجلد ذيب الطري كما في اللقطة التي تظهر رجلاه اللتان جف عليهما الكلس وهو يملأ الماء من البئر. لكنه أيضاً يجسد غموض الصحراء في كيفية تصويره للبئر، والتناقض بين جمالية انسياب الماء والخشية التي تسببها أعماقه.

حساسية سينمائية
عالية في تصوير أكثر
التفاصيل واقعيةً
حتى أبسط تفاصيل الملبس كعمامة الرأس، تتحول إلى عناصر جمالية في هندسة المشاهد كما حين يعبر «حسين» بين العمامتين اللتين تبرزان في مقدمة المشهد ليختفي تدريجاً في العتمة بحثاً عن الوافدين الجدد، البدوي والضابط الإنكليزي اللذان يزعزع قدومهما سكينة إيقاع الحياة في العشيرة. يطلبان من حسين أن يرشدهما إلى أحد المواقع في الصحراء ويركب الثلاثة الجمال. لكن ذيب يلحق بهما خفية رغم معارضة أخيه، ممتطياً الحمار الذي يظل يعانده إلى أن ييأس ويترجل ويكمل طريقه سيراً في أحد المشاهد الطريفة. المخرج أيضاً ينجح في أنسنة الحيوانات والصحراء كما في اللقطات التي تصوّر وجه الجمل الذي يصرخ أحياناً رافضاً الانصياع لراكبه الذي يود منه الجثوم، أو أنين العنزة وهي تحاول أن تقاوم الذبح. علاقة السيطرة والخضوع تتماهى مع علاقة البشر في ما بينهم. ذلك كله من دون لجوء إلى الميلودراما أو الرسم الكلاسيكي لعلاقة الجلاد بالضحية.
هو يشرح بحساسية سينمائية عالية أكثر التفاصيل الواقعية التي تجسد ما يمكن تسميته بجمالية القسوة المتبادلة بين الإنسان والطبيعة. يستغل بذكاء كل عناصر الصحراء من خصوصية الضوء إلى الصوت والتواتر بين شمس النهار الحارقة وعتمة الليل الدامسة التي تتحول مسرحاً للخوف، حين يهجم قطاع الطرق على ذيب وأخيه المختبئين في الجبال. لا يسمعان سوى صدى الأصوات التي تتردد من كل زاوية.
حتى الذباب يتحول عنصراً في السرد السينمائي، فيتكاثر إثر سقوط الجثث ويحوم حولها في حين أنّ ذيب الذي يبقى وحيداً بعد مقتل أخيه، يحاول طرده في البداية. إلا أنه يستسلم تدريجاً، فيصبح الذباب الملتصق بجلده أو حتى بفمه جزءاً منه، ويبرز في كل المشاهد التي تصوره مع قاتل أخيه، كتذكير بالموت الذي لا مفر منه. إنّها بداية تحوله من «ذيخ» كما يلقبونه للسخرية من ضعفه إلى «ذيب». يوجه المسدس في النهاية صوب قاتل أخيه. إنّها أيضاً بداية تحول هذا العالم البدائي الذي غزته الحداثة المتمثلة بسكة الحديد ــ ذلك «الحمار على أربعة دواليب» كما يشير الفيلم ــ والحرب العالمية الأولى التي بات ذيب الصغير طرفاً فيها من دون علمه. حتى أنه يسأل في أحد المقاطع: «ما هو الإنكليزي» في إشارة إلى الضابط الإنكليزي الذي تتسبب في مقتل أخيه على يد قطاع الطرق الموالين للأتراك.

* «ذيب»: «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080